يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ ۚ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا(1) التفسير المختصر: يا أيها الناس، اتقوا ربكم، فهو الذي خلقكم من نفس واحدة هي أبوكم آدم، وخلق من آدم زوجه حواء أمكم، ونشر منهما في أقطار الأرض بشرًا كثيرًا ذكورًا وإناثًا، واتقوا الله الذي يسأل بعضكم بعضًا به بأن يقول: أسألك بالله أن تفعل كذا، واتقوا قَطْع الأرحام التي تربط بينكم، إن الله كان عليكم رقيبًا، فلا يفوته شيء من أعمالكم، بل يحصيها ويجازيكم عليها. تفسير الجلالين: «يا أيها الناس» أي أهل مكة «اتقوا ربكم» أي عقابه بأن تطيعوه «الذي خلقكم من نفس واحدة» آدم «وخلق منها زوجها» حواء بالمد من ضلع من أضلاعه اليسرى «وبث» فرق ونشر «منهما» من آدم وحواء «رجالا كثيرا ونساء» كثيرة «واتقوا الله الذي تَسّاءلون» فيه إدغام التاء في الأصل في السين، وفي قراءة بالتخفيف بحذفها أي تتساءلون «به» فيما بينكم حيث يقول بعضكم لبعض أسألك بالله وأنشدك بالله «و» اتقوا «الأرحام» أن تقطعوها، وفي قراءة بالجر عطفا على الضمير في به وكانوا يتناشدون بالرحم «إنَّ الله كان عليكم رقيبا» حافظا لأعمالكم فيجازيكم بها، أي لم يزل متصفا بذلك. تفسير السعدي: افتتح تعالى هذه السورة بالأمر بتقواه، والحث على عبادته، والأمر بصلة الأرحام، والحث على ذلك. وبيَّن السبب الداعي الموجب لكل من ذلك، وأن الموجب لتقواه لأنه رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ورزقكم، ورباكم بنعمه العظيمة، التي من جملتها خلقكم مِن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا ليناسبها، فيسكن إليها، وتتم بذلك النعمة، ويحصل به السرور، وكذلك من الموجب الداعي لتقواه تساؤلكم به وتعظيمكم، حتى إنكم إذا أردتم قضاء حاجاتكم ومآربكم، توسلتم بها بالسؤال بالله. فيقول من يريد ذلك لغيره: أسألك بالله أن تفعل الأمر الفلاني؛ لعلمه بما قام في قلبه من تعظيم الله الداعي أن لا يرد من سأله بالله، فكما عظمتموه بذلك فلتعظموه بعبادته وتقواه. وكذلك الإخبار بأنه رقيب، أي: مطلع على العباد في حال حركاتهم وسكونهم، وسرهم وعلنهم، وجميع أحوالهم، مراقبا لهم فيها مما يوجب مراقبته، وشدة الحياء منه، بلزوم تقواه. وفي الإخبار بأنه خلقهم من نفس واحدة، وأنه بثهم في أقطار الأرض، مع رجوعهم إلى أصل واحد -ليعطف بعضهم على بعض، ويرقق بعضهم على بعض. وقرن الأمر بتقواه بالأمر ببر الأرحام والنهي عن قطيعتها، ليؤكد هذا الحق، وأنه كما يلزم القيام بحق الله، كذلك يجب القيام بحقوق الخلق، خصوصا الأقربين منهم، بل القيام بحقوقهم هو من حق الله الذي أمر به. وتأمل كيف افتتح هذه السورة بالأمر بالتقوى، وصلة الأرحام والأزواج عموما، ثم بعد ذلك فصل هذه الأمور أتم تفصيل، من أول السورة إلى آخرها. فكأنها مبنية على هذه الأمور المذكورة، مفصلة لما أجمل منها، موضحة لما أبهم. وفي قوله: وخلق مِنْهَا زَوْجَهَا تنبيه على مراعاة حق الأزواج والزوجات والقيام به، لكون الزوجات مخلوقات من الأزواج، فبينهم وبينهن أقرب نسب وأشد اتصال، وأقرب علاقة. |
وَآتُوا الْيَتَامَىٰ أَمْوَالَهُمْ ۖ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ ۖ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَىٰ أَمْوَالِكُمْ ۚ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا(2) التفسير المختصر: وأعطوا - أيها الأوصياء - اليتامى (وهم: من فقدوا آباءهم ولم يبلغوا الحُلم) أموالهم كاملة إذا بلغوا وكانوا راشدين، ولا تتبدَّلوا الحرام بالحلال؛ بأن تأخذوا الجيِّد النفيس من أموال اليتامى، وتدفعوا بدله الرديء الخسيس من أموالكم، ولا تأخذوا أموال اليتامى مضمومة إلى أموالكم، إن ذلك كان ذنبًا عظيمًا عند الله. تفسير الجلالين: ونزل في يتيم طلب من وليه ماله فمنعه: «وآتوا اليتامى» الصغار الذين لا أب لهم «أموالهم» إذا بلغوا «ولا تتبدلوا الخبيث» الحرام «بالطيب» الحلال أي تأخذوه بدله كما تفعلون من أخذ الجيد من مال اليتيم وجعل الرديء من مالكم مكانه «ولا تأكلوا أموالهم» مضمومة «إلى أموالكم إنه» أي أكلها «كان حوبا» ذنبا «كبيرا» عظيما ولما نزلت تحرجوا من ولاية اليتامى وكان فيهم من تحته العشر أو الثمان من الأزواج فلا يعدل بينهن فنزل. تفسير السعدي: وقوله تعالى: وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم إنه كان حوبا كبيرا هذا أول ما أوصى به من حقوق الخلق في هذه السورة. وهم اليتامى الذين فقدوا آباءهم الكافلين لهم، وهم صغار ضعاف لا يقومون بمصالحهم. فأمر الرءوف الرحيم عباده أن يحسنوا إليهم، وأن لا يقربوا أموالهم إلا بالتي هي أحسن، وأن يؤتوهم أموالهم إذا بلغوا ورشدوا، كاملة موفرة، وأن لا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ الذي هو أكل مال اليتيم بغير حق. بِالطَّيِّبِ وهو الحلال الذي ما فيه حرج ولا تبعة. وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ أي: مع أموالكم، ففيه تنبيه لقبح أكل مالهم بهذه الحالة، التي قد استغنى بها الإنسان بما جعل الله له من الرزق في ماله. فمن تجرأ على هذه الحالة، فقد أتى حُوبًا كَبِيرًا أي: إثمًا عظيمًا، ووزرًا جسيمًا. ومن استبدال الخبيث بالطيب أن يأخذ الولي من مال اليتيم النفيس، ويجعل بدله من ماله الخسيس. وفيه الولاية على اليتيم، لأن مِنْ لازم إيتاء اليتيم ماله، ثبوت ولاية المؤتي على ماله. وفيه الأمر بإصلاح مال اليتيم، لأن تمام إيتائه ماله حفظه والقيام به بما يصلحه وينميه وعدم تعريضه للمخاوف والأخطار. |
وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَىٰ فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاءِ مَثْنَىٰ وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ ۖ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ۚ ذَٰلِكَ أَدْنَىٰ أَلَّا تَعُولُوا(3) التفسير المختصر: وإن خفتم ألا تعدلوا إذا تزوجتم اليتيمات اللاتي تحت ولايتكم، إما خوفًا من نقص مهرهن الواجب لهن، أو إساءة معاملتهن، فدعوهن وتزوجوا الطيبات من النساء غيرهن، إن شئتم تزوجتم اثنتين أو ثلاثًا أو أربعًا، فإن خفتم ألا تعدلوا بينهن فاقتصروا على واحدة، أو استمتعوا بما ملكت أيمانكم من الإماء؛ إذ لا يجب لهن مثل ما يجب للزوجات من الحقوق، ذلك الذي ورد في الآية في شأن اليتامى والاقتصار على نكاح واحدة أو الاستمتاع بالإماء أقرب إلى ألا تَجُورُوا وتميلوا. تفسير الجلالين: «وإن خفتم أ» ن «لا تُقسطوا» تعدلوا «في اليتامى» فتحرجتم من أمرهم فخافوا أيضا أن لا تعدلوا بين النساء إذا نكحتموهن «فانكحوا» تزوجوا «ما» بمعنى من «طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع» أي اثنتين وثلاثا وأربعا ولا تزيدوا على ذلك «فإن خفتم أ» ن «لا تعدلوا» فيهن بالنفقة والقسم؟ «فواحدةّ» انكحوها «أو» اقتصروا على «ما ملكت أيمانكم» من الإماء إذ ليس لهن من الحقوق ما للزوجات «ذلك» أي نكاح الأربع فقط أو الواحدة أو التسرَّي «أدنى» أقرب إلى «ألا تعولوا» تجوروا. تفسير السعدي: أي: وإن خفتم ألا تعدلوا في يتامى النساء اللاتي تحت حجوركم وولايتكم وخفتم أن لا تقوموا بحقهن لعدم محبتكم إياهن، فاعدلوا إلى غيرهن، وانكحوا مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء أي: ما وقع عليهن اختياركم من ذوات الدين، والمال، والجمال، والحسب، والنسب، وغير ذلك من الصفات الداعية لنكاحهن، فاختاروا على نظركم، ومن أحسن ما يختار من ذلك صفة الدين كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "تنكح المرأة لأربع لمالها ولجمالها ولحسبها ولدينها فاظفر بذات الدين تَرِبَتْ يمينك" وفي هذه الآية - أنه ينبغي للإنسان أن يختار قبل النكاح، بل وقد أباح له الشارع النظر إلى مَنْ يريد تزوجها ليكون على بصيرة من أمره. ثم ذكر العدد الذي أباحه من النساء فقال: مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ أي: من أحب أن يأخذ اثنتين فليفعل، أو ثلاثا فليفعل، أو أربعا فليفعل، ولا يزيد عليها، لأن الآية سيقت لبيان الامتنان، فلا يجوز الزيادة على غير ما سمى الله تعالى إجماعا. وذلك لأن الرجل قد لا تندفع شهوته بالواحدة، فأبيح له واحدة بعد واحدة، حتى يبلغ أربعا، لأن في الأربع غنية لكل أحد، إلا ما ندر، ومع هذا فإنما يباح له ذلك إذا أمن على نفسه الجور والظلم، ووثق بالقيام بحقوقهن. فإن خاف شيئا من هذا فليقتصر على واحدة، أو على ملك يمينه. فإنه لا يجب عليه القسم في ملك اليمين ذَلِك أي: الاقتصار على واحدة أو ما ملكت اليمين أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا أي: تظلموا. وفي هذا أن تعرض العبد للأمر الذي يخاف منه الجور والظلم، وعدم القيام بالواجب -ولو كان مباحًا- أنه لا ينبغي له أن يتعرض، له بل يلزم السعة والعافية، فإن العافية خير ما أعطي العبد. |
وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً ۚ فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَّرِيئًا(4) التفسير المختصر: وأعطوا النساء مهورهن عطية واجبة، فإن طابت نفوسهن بشيء من المهر لكم بلا إكراه؛ فكلوه سائغًا لا تنغيص فيه. تفسير الجلالين: «وآتوا» أعطوا «النساء صدقاتهن» جمع صدقة مهورهن «نِحلة» مصدر عطية عن طيب نفس «فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا» تمييز محول عن الفاعل، أي طابت أنفسهن لكم عن شيء من الصداق فوهبنه لكم «فكلوه هنيئا» طيبا «مريئا» محمود العاقبة لا ضرر فيه عليكم في الآخرة نزلت ردا على كره ذلك. تفسير السعدي: ولما كان كثير من الناس يظلمون النساء ويهضمونهن حقوقهن، خصوصا الصداق الذي يكون شيئا كثيرًا، ودفعة واحدة، يشق دفعه للزوجة، أمرهم وحثهم على إيتاء النساء صَدُقَاتِهِنَّ أي: مهورهن نِحْلَةً أي: عن طيب نفس، وحال طمأنينة، فلا تمطلوهن أو تبخسوا منه شيئا. وفيه: أن المهر يدفع إلى المرأة إذا كانت مكلفة، وأنها تملكه بالعقد، لأنه أضافه إليها، والإضافة تقتضي التمليك. فَإِنْ طِبْنَ لَكُم عَنْ شَيْءٍ مِّنْهُ أي: من الصداق نَفْسًا بأن سمحن لكم عن رضا واختيار بإسقاط شيء منه، أو تأخيره أو المعاوضة عنه. فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا أي: لا حرج عليكم في ذلك ولا تبعة. وفيه دليل على أن للمرأة التصرف في مالها -ولو بالتبرع- إذا كانت رشيدة، فإن لم تكن كذلك فليس لعطيتها حكم، وأنه ليس لوليها من الصداق شيء، غير ما طابت به. وفي قوله: فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء دليل على أن نكاح الخبيثة غير مأمور به، بل منهي عنه كالمشركة، وكالفاجرة، كما قال تعالى: وَلَا تَنكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وقال: وَالزَّانِيَةُ لَا يَنكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ |
وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَّعْرُوفًا(5) التفسير المختصر: ولا تعطوا - أيها الأولياء - الأموال للذين لا يحسنون التصرف، فهذه الأموال جعلها الله سببًا تقوم به مصالح العباد وأمور معاشهم، وهؤلاء ليسوا أهلًا للقيام على الأموال وحفظها، وأنفقوا عليهم واكسوهم منها، وقولوا لهم قولًا طيبًا، وعِدُوهم مَوعِدَةً حسنة بأن تعطوهم مالهم إذا بلغوا الرشد وحُسْنَ التصرف. تفسير الجلالين: «ولا تؤتوا» أيها الأولياء «السفهاء» المبذِّرين من الرجال والنساء والصبيان «أموالكم» أي أموالهم التي في أيديكم «التي جعل الله لكم قياما» مصدر قام أي تقوم بمعاشكم وصلاح أولادكم فيضعوها في غير وجهها وفي قراءة قيَما جمع قيمة ما تقوم به الأمتعة «وارزقوهم فيها» أي اطعموهم منها «واكسوهم وقولوا لهم قولا معروفا» عدوهم عدة جميلة بإعطائهم أموالهم إذا رشدوا. تفسير السعدي: وقوله تعالى: ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما وارزقوهم فيها واكسوهم وقولوا لهم قولا معروفا السفهاء: جمع "سفيه" وهو: من لا يحسن التصرف في المال، إما لعدم عقله كالمجنون والمعتوه، ونحوهما، وإما لعدم رشده كالصغير وغير الرشيد. فنهى الله الأولياء أن يؤتوا هؤلاء أموالهم خشية إفسادها وإتلافها، لأن الله جعل الأموال قياما لعباده في مصالح دينهم ودنياهم، وهؤلاء لا يحسنون القيام عليها وحفظها، فأمر الولي أن لا يؤتيهم إياها، بل يرزقهم منها ويكسوهم، ويبذل منها ما يتعلق بضروراتهم وحاجاتهم الدينية والدنيوية، وأن يقولوا لهم قولا معروفا، بأن يعدوهم -إذا طلبوها- أنهم سيدفعونها لهم بعد رشدهم، ونحو ذلك، ويلطفوا لهم في الأقوال جبرًا لخواطرهم. وفي إضافته تعالى الأموال إلى الأولياء، إشارة إلى أنه يجب عليهم أن يعملوا في أموال السفهاء ما يفعلونه في أموالهم، من الحفظ والتصرف وعدم التعريض للأخطار. وفي الآية دليل على أن نفقة المجنون والصغير والسفيه في مالهم، إذا كان لهم مال، لقوله: وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وفيه دليل على أن قول الولي مقبول فيما يدعيه من النفقة الممكنة والكسوة؛ لأن الله جعله مؤتمنا على مالهم فلزم قبول قول الأمين. |
وَابْتَلُوا الْيَتَامَىٰ حَتَّىٰ إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ ۖ وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَن يَكْبَرُوا ۚ وَمَن كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ ۖ وَمَن كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ ۚ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ ۚ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ حَسِيبًا(6) التفسير المختصر: واختبروا - أيها الأولياء - اليتامى إذا وصلوا سن البلوغ، بإعطائهم جزءًا من مالهم يتصرفون فيه، فإن أحسنوا التصرف فيه، وتبين لكم رشدهم؛ فسلموا إليهم أموالهم كاملة غير منقوصة، ولا تأكلوا أموالهم متجاوزين الحد الذي أباحه الله لكم من أموالهم عند الحاجة، ولا تبادروا بأكلها خشية أن يأخذوها إذا بلغوا، ومن كان منكم له مال يُغْنيه فليمتنع عن الأخذ من مال اليتيم، ومن كان منكم فقيرًا لا مال له فليأكل بقدر حاجته، وإذا سلمتم إليهم أموالهم بعد البلوغ وتبيُّن الرشد منهم؛ فأشهدوا على ذلك التسليم حفظًا للحقوق، ومنعًا لأسباب الاختلاف، وكفى الله شاهدًا على ذلك، ومحاسبًا للعباد على أعمالهم. تفسير الجلالين: «وابتلوا» اختبروا «اليتامى» قبل البلوغ في دينهم وتصرفهم في أحوالهم «حتى إذا بلغوا النكاح» أي صاروا أهلا له بالاحتلام أو السن وهو استكمال خمس عشرة سنة عند الشافعي «فإن آنستم» أبصرتم «منهم رشدا» صلاحا في دينهم ومالهم «فادفعوا إليهم أموالهم ولا تأكلوها» أيها الأولياء «إسرافا» بغير حق حال «وبدارا» أي مبادرين إلى إنفاقها مخافة «أن يكبروا» رشداء فيلزمكم تسليمها إليهم «ومن كان» من الأولياء «غنيا فليستعفف» أي يعف عن مال اليتيم ويمتنع من أكله «ومن كان فقيرا فليأكل» منه «بالمعروف» بقدر أجرة عمله «فإذا دفعتم إليهم» أي إلى اليتامى «أموالهم فأشهدوا عليهم» أنهم تسلموها وبرئتم لئلا يقع اختلاف فترجعوا إلى البينة وهذا أمر إرشاد «وكفى بالله» الياء زائدة «حسيبا» حافظا لأعمال خلقه ومحاسبهم. تفسير السعدي: الابتلاء: هو الاختبار والامتحان، وذلك بأن يدفع لليتيم المقارب للرشد، الممكن رشده، شيئا من ماله، ويتصرف فيه التصرف اللائق بحاله، فيتبين بذلك رشده من سفهه، فإن استمر غير محسن للتصرف لم يدفع إليه ماله، بل هو باق على سفهه، ولو بلغ عمرا كثيرا. فإن تبين رشده وصلاحه في ماله وبلغ النكاح فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ كاملة موفرة. وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا أي: مجاوزة للحد الحلال الذي أباحه الله لكم من أموالكم، إلى الحرام الذي حرمه الله عليكم من أموالهم. وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا أي: ولا تأكلوها في حال صغرهم التي لا يمكنهم فيها أخذها منكم، ولا منعكم من أكلها، تبادرون بذلك أن يكبروا، فيأخذوها منكم ويمنعوكم منها. وهذا من الأمور الواقعة من كثير من الأولياء، الذين ليس عندهم خوف من الله، ولا رحمة ومحبة للمولى عليهم، يرون هذه الحال حال فرصة فيغتنمونها ويتعجلون ما حرم الله عليهم، فنهى الله تعالى عن هذه الحالة بخصوصها. |
لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ ۚ نَصِيبًا مَّفْرُوضًا(7) التفسير المختصر: للرجال حظ مما تركه الوالدان والأقربون كالإخوة والأعمام بعد موتهم، قليلًا كان أو كثيرًا، وللنساء حظ مما تركه هؤلاء؛ خلافًا لما كان عليه أمر الجاهلية من حرمان النساء والأطفال من الميراث، هذا النصيب حق مُبيَّن المقدارِ مفروضٌ من الله تعالى. تفسير الجلالين: ونزل ردا لما كان عليه في الجاهلية من عدم توريث النساء والصغار: «للرجال» الأولاد والأقرباء «نصيب» حظٌ «مما ترك الوالدان والأقربون» المتوفون «وللنساء نصيب مما ترك الوالدان والأقربون مما قلَّ منه» أي المال «أو كثر» جعله الله «نصيبا مفروضا» مقطوعا بتسليمه إليهم. تفسير السعدي: كان العرب في الجاهلية - من جبروتهم وقسوتهم لا يورثون الضعفاء كالنساء والصبيان، ويجعلون الميراث للرجال الأقوياء لأنهم -بزعمهم- أهل الحرب والقتال والنهب والسلب، فأراد الرب الرحيم الحكيم أن يشرع لعباده شرعًا، يستوي فيه رجالهم ونساؤهم، وأقوياؤهم وضعفاؤهم. وقدم بين يدي ذلك أمرا مجملا لتتوطَّن على ذلك النفوس. فيأتي التفصيل بعد الإجمال، قد تشوفت له النفوس، وزالت الوحشة التي منشؤها العادات القبيحة، فقال: لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ : أي: قسط وحصة مِمَّا تَرَكَ أي: خلف الْوَالِدَان أي: الأب والأم وَالْأَقْرَبُونَ عموم بعد خصوص وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ فكأنه قيل: هل ذلك النصيب راجع إلى العرف والعادة، وأن يرضخوا لهم ما يشاءون؟ أو شيئا مقدرا؟ فقال تعالى: نَصِيبًا مَفْرُوضًا : أي: قد قدره العليم الحكيم. وسيأتي -إن شاء الله- تقدير ذلك. وأيضا فهاهنا توهم آخر، لعل أحدا يتوهم أن النساء والولدان ليس لهم نصيب إلا من المال الكثير، فأزال ذلك بقوله: مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ فتبارك الله أحسن الحاكمين. |
وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُم مِّنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَّعْرُوفًا(8) التفسير المختصر: وإذا حضر قَسْمَ التركة من لا يرث من الأقارب واليتامى والفقراء؛ فأعطوهم - على سبيل الاستحباب - من هذا المال قبل قسمته ما تطيب به نفوسكم، فهم مُتشوِّفون إليه، وقد جاءكم بلا عناء، وقولوا لهم قولًا حسنًا لا قبح فيه. تفسير الجلالين: «وإذا حضر القسمة» للميراث «أولوا القربى» ذوو القرابة ممن لا يرث «واليتامى والمساكين فارزقوهم منه» شيئا قبل القسمة «وقولوا» أيها الأولياء «لهم» إذا كان الورثة صغارا «قولا معروفا» جميلا بأن تعتذروا إليهم أنكم لا تملكونه وأنه للصغار وهذا قيل إنه منسوخ وقيل لا ولكن تهاون الناس في تركه وعليه فهو ندب وعن ابن عباس واجب. تفسير السعدي: وهذا من أحكام الله الحسنة الجليلة الجابرة للقلوب فقال: وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أي: قسمة المواريث أُولُو الْقُرْبَى أي: الأقارب غير الوارثين بقرينة قوله: الْقِسْمَةَ لأن الوارثين من المقسوم عليهم. وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِين أي: المستحقون من الفقراء. فَارْزُقُوهُم مِّنْهُ أي: أعطوهم ما تيسر من هذا المال الذي جاءكم بغير كد ولا تعب، ولا عناء ولا نَصَب، فإن نفوسهم متشوفة إليه، وقلوبهم متطلعة، فاجبروا خواطرهم بما لا يضركم وهو نافعهم. ويؤخذ من المعنى أن كل من له تطلع وتشوف إلى ما حضر بين يدي الإنسان، ينبغي له أن يعطيه منه ما تيسر، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا جاء أحدَكم خادمُه بطعامه فليجلسه معه، فإن لم يجلسه معه، فليناوله لقمة أو لقمتين" أو كما قال. وكان الصحابة رضي الله عنهم -إذا بدأت باكورة أشجارهم- أتوا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فبرَّك عليها، ونظر إلى أصغر وليد عنده فأعطاه ذلك، علما منه بشدة تشوفه لذلك، وهذا كله مع إمكان الإعطاء، فإن لم يمكن ذلك -لكونه حق سفهاء، أو ثَم أهم من ذلك- فليقولوا لهم قَولًا مَعْرُوفًا يردوهم ردًّا جميلا، بقول حسن غير فاحش ولا قبيح. |
وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا(9) التفسير المختصر: وَلْيَخَف الذين لو ماتوا وتركوا خلفهم أولادًا صغارًا ضعافًا، خافوا عليهم من الضياع، فليتقوا الله فيمن تحت ولايتهم من الأيتام بترك ظلمهم، حتى ييسر الله لهم بعد موتهم من يحسن لأولادهم كما أحسنوا هم، وليحسنوا في حق أولاد من يحضرون وصيته بأن يقولوا لهم قولًا مصيبًا للحق بألا يظلم في وصيته حقَّ ورثته من بعده، ولا يحرم نفسه من الخير بترك الوصية. تفسير الجلالين: «ولْيخش» أي ليخف على اليتامى «الذين لو تركوا» أي قاربوا أن يتركوا «من خلفهم» أي بعد موتهم «ذرية ضعافا» أولاد صغارا «خافوا عليهم» الضياع «فليتقوا الله» في أمر اليتامى وليأتوا إليهم ما يحبون أن يفعل بذريتهم من بعدهم «ولْيقولوا» للميت «قولا سديدا» صوابا بأن يأمروه أن يتصدق بدون ثلثه ويدع الباقي لورثته ولا يتركهم عالة. تفسير السعدي: قيل: إن هذا خطاب لمن يحضر مَنْ حضره الموت وأجنف في وصيته، أن يأمره بالعدل في وصيته والمساواة فيها، بدليل قوله: وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا أي: سدادا، موافقا للقسط والمعروف. وأنهم يأمرون من يريد الوصية على أولاده بما يحبون معاملة أولادهم بعدهم. وقيل: إن المراد بذلك أولياء السفهاء من المجانين والصغار والضعاف أن يعاملوهم في مصالحهم الدينية والدنيوية بما يحبون أن يعامل به مَنْ بعدهم من ذريتهم الضعاف فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ في ولايتهم لغيرهم، أي: يعاملونهم بما فيه تقوى الله، من عدم إهانتهم والقيام عليهم، وإلزامهم لتقوى الله. |
إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَىٰ ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا ۖ وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا(10) التفسير المختصر: إن الذين يأخذون أموال اليتامى، ويتصرفون فيها ظلمًا وعدوانًا، إنما يأكلون في أجوافهم نارًا تلتهب عليهم، وستحرقهم النار يوم القيامة. تفسير الجلالين: «إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما» بغير حق «إنما يأكلون في بطونهم» أي ملأها «نارا» لأنه يؤول إليها «وَسَيَصْلَوْنَ» بالبناء للفاعل والمفعول يدخلون «سعيرا» نارا شديدة يحترقون فيها. تفسير السعدي: ولما أمرهم بذلك، زجرهم عن أكل أموال اليتامى، وتوعد على ذلك أشد العذاب فقال: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا أي: بغير حق. وهذا القيد يخرج به ما تقدم، من جواز الأكل للفقير بالمعروف، ومن جواز خلط طعامهم بطعام اليتامى. فمَنْ أكلها ظلمًا ف إنما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا أي: فإن الذي أكلوه نار تتأجج في أجوافهم وهم الذين أدخلوها في بطونهم. وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا أي: نارًا محرقة متوقدة. وهذا أعظم وعيد ورد في الذنوب، يدل على شناعة أكل أموال اليتامى وقبحها، وأنها موجبة لدخول النار، فدل ذلك أنها من أكبر الكبائر. نسأل الله العافية. |
يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ ۖ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنثَيَيْنِ ۚ فَإِن كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ ۖ وَإِن كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ ۚ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِن كَانَ لَهُ وَلَدٌ ۚ فَإِن لَّمْ يَكُن لَّهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ ۚ فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ ۚ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ ۗ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا ۚ فَرِيضَةً مِّنَ اللَّهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا(11) التفسير المختصر: يعهد الله إليكم ويأمركم في شأن ميراث أولادكم؛ أن الميراث يُقسم بينهم للابن مثل نصيب البنتين، فإن ترك الميّت بنات دون ولد ذكر؛ فللبنتين فأكثر الثلثان مما ترك، وإن كانت بنتًا واحدة فلها نصف ما ترك، ولكل واحد من أبوي الميّتِ سدس ما ترك؛ إن كان له ولد ذكرًا كان أو أنثى، وإن لم يكن له ولد ولا وارث له غير أبويه؛ فللأم الثلث، وباقي الميراث لأبيه، وإن كان للميّتِ إخوة اثنان فأكثر ذكورًا كانوا أو إناثًا أشقاء أو غير أشقاء؛ فلأمه السدس فرضًا، والباقي للأب تعصيبًا، ولا شيء للإخوة، ويكون هذا القسم للميراث بعد تنفيذ الوصية التي أوصى بها الميّت بشرط ألا تزيد وصيته عن ثلث ماله، وبشرط قضاء الدَّين الذي عليه، وقد جعل الله تعالى قسمة الميراث على هذا؛ لأنكم لا تدرون مَنْ مِن الآباء والأبناء أقرب لكم نفعًا في الدنيا والآخرة، فقد يظن الميتُ بأحد ورثته خيرًا؛ فيعطيه المال كله، أو يظن به شرًّا فيحرمه منه، وقد يكون الحال خلاف ذلك، والذي يعلم ذلك كله هو الله الذي لا يخفى عليه شيء، ولذلك قسم الميراث على ما بيَّن، وجعله فريضة منه واجبة على عباده، إن الله كان عليمًا لا يخفى عليه شيء من مصالح عباده، حكيمًا في شرعه وتدبيره. تفسير الجلالين: «يوصيكم» يأمركم «الله في» شأن «أولادكم» بما يذكر «للذكر» منهم «مثل حظ» نصيب «الأنثيين» إذا اجتمعنا معه فله نصف المال ولهما النصف فإن كان معه واحدة فلها الثلث وله الثلثان وإن انفرد جاز المال «فإن كنَّ» أي الأولاد «نساءً» فقط «فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك» الميت وكذا الاثنتان لأنه للأختين بقوله «فلهما الثلثان مما ترك» فهما أولى به ولأن البنت تستحق الثلث مع الذكر فمع الأنثى أولى (وفوق) قيل صلة وقيل لدفع توهم زيادة النصيب بزيادة العدد لما فهم استحقاق البنتين الثلثين من جعل الثلث للواحدة مع الذكر «وإن كانت» المولودة «واحدة» وفي قراءة بالرفع فكان تامة «فلها النصف ولأبويه» أي الميت ويبدل منهما «لكل واحد منهما السدس مما ترك إن كان له ولد» ذكر أو أنثى ونكتة البدل إفادة أنهما لا يشتركان فيه وألحق بالولد ولد الابن وبالأب الجد «فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه» فقط أو مع زوج «فلأمه» بضم الهمزة وكسرها فرارا من الانتقال من ضمة إلى كسرة لثقله في الموضعين «الثلث» أي ثلث المال أو ما ينبغي بعد الزوج والباقي للأب «فإن كان له إخوة» أي اثنان فصاعدا ذكورا أو إناثا «فلأمه السدس» والباقي للأب ولا شيء للأخوة وإرث من ذكر ما ذُكر «من بعد» تنفيذ «وصية يوصي» بالبناء للفاعل والمفعول «بها أو» قضاء «دين» عليه وتقديم الوصية على الدين وإن كانت مؤخرة عنه في الوفاء للاهتمام بها «آباؤكم وأبناؤكم» مبتدأ خبره «لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا» في الدنيا والآخرة فظان أن ابنه أنفع له فيعطيه الميراث فيكون الأب أنفع وبالعكس وإنما العالم بذلك هو الله ففرض لكم الميراث «فريضة من الله إن الله كان عليما» بخلقه «حكيما» فيما دبَّره لهم: أي لم يزل متصفا بذلك. تفسير السعدي: هذه الآيات والآية التي هي آخر السورة هن آيات المواريث المتضمنة لها. فإنها مع حديث عبد الله بن عباس الثابت في صحيح البخاري "ألْحِقوا الفرائض بأهلها، فما بقي فلأولى رجل ذكر" - مشتملات على جل أحكام الفرائض، بل على جميعها كما سترى ذلك، إلا ميراث الجدات فإنه غير مذكور في ذلك. لكنه قد ثبت في السنن عن المغيرة بن شعبة ومحمد بن مسلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى الجدة السدس، مع إجماع العلماء على ذلك. فقوله تعالى: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ أي: أولادكم -يا معشر الوالِدِين- عندكم ودائع قد وصاكم الله عليهم، لتقوموا بمصالحهم الدينية والدنيوية، فتعلمونهم وتؤدبونهم وتكفونهم عن المفاسد، وتأمرونهم بطاعة الله وملازمة التقوى على الدوام كما قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ فالأولاد عند والديهم موصى بهم، فإما أن يقوموا بتلك الوصية، وإما أن يضيعوها فيستحقوا بذلك الوعيد والعقاب. وهذا مما يدل على أن الله تعالى أرحم بعباده من الوالدين، حيث أوصى الوالدين مع كمال شفقتهم، عليهم. ثم ذكر كيفية إرثهم فقال: لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ أي: الأولاد للصلب، والأولاد للابن، للذكر مثل حظ الأنثيين، إن لم يكن معهم صاحب فرض، أو ما أبقت الفروض يقتسمونه كذلك، وقد أجمع العلماء على ذلك، وأنه -مع وجود أولاد الصلب- فالميراث لهم. وليس لأولاد الابن شيء، حيث كان أولاد الصلب ذكورًا وإناثا، هذا مع اجتماع الذكور والإناث. وهنا حالتان: انفراد الذكور، وسيأتي حكمها. وانفراد الإناث، وقد ذكره بقوله: فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ أي: بنات صلب أو بنات ابن، ثلاثا فأكثر فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِن كَانَتْ وَاحِدَة أي: بنتا أو بنت ابن فَلَهَا النِّصْفُ وهذا إجماع. بقي أن يقال: من أين يستفاد أن للابنتين الثنتين الثلثين بعد الإجماع على ذلك؟ فالجواب أنه يستفاد من قوله: وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ فمفهوم ذلك أنه إن زادت على الواحدة، انتقل الفرض عن النصف، ولا ثَمَّ بعده إلا الثلثان. وأيضا فقوله: لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ إذا خلَّف ابنًا وبنتًا، فإن الابن له الثلثان، وقد أخبر الله أنه مثل حظ الأنثيين، فدل ذلك على أن للبنتين الثلثين. وأيضًا فإن البنت إذا أخذت الثلث مع أخيها - وهو أزيد ضررًا عليها من أختها، فأخذها له مع أختها من باب أولى وأحرى. وأيضا فإن قوله تعالى في الأختين: فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ نص في الأختين الثنتين. فإذا كان الأختان الثنتان -مع بُعدهما- يأخذان الثلثين فالابنتان -مع قربهما- من باب أولى وأحرى. وقد أعطى النبي صلى الله عليه وسلم ابنتي سعد الثلثين كما في الصحيح. بقي أن يقال: فما الفائدة في قوله: فَوْقَ اثْنَتَيْن ؟. قيل: الفائدة في ذلك -والله أعلم- أنه ليعلم أن الفرض الذي هو الثلثان لا يزيد بزيادتهن على الثنتين بل من الثنتين فصاعدًا. ودلت الآية الكريمة أنه إذا وجد بنت صلب واحدة، وبنت ابن أو بنات ابن، فإن لبنت الصلب النصف، ويبقى من الثلثين اللذين فرضهما الله للبنات أو بنات الابن السدس، فيعطى بنت الابن، أو بنات الابن، ولهذا يسمى هذا السدس تكملة الثلثين. ومثل ذلك بنت الابن، مع بنات الابن اللاتي أنزل منها. وتدل الآية أنه متى استغرق البنات أو بنات الابن الثلثين، أنه يسقط مَنْ دونهن مِنْ بنات الابن لأن الله لم يفرض لهن إلا الثلثين، وقد تم. فلو لم يسقطن لزم من ذلك أن يفرض لهن أزيَد من الثلثين، وهو خلاف النص. وكل هذه الأحكام مجمع عليها بين العلماء ولله الحمد. ودل قوله: مِمَّا تَرَكَ أن الوارثين يرثون كل ما خلف الميت من عقار وأثاث وذهب وفضة وغير ذلك، حتى الدية التي لم تجب إلا بعد موته، وحتى الديون التي في الذمم ثم ذكر ميراث الأبوين فقال: وَلِأَبَوَيْهِ أي: أبوه وأمه لِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ أي: ولد صلب أو ولد ابن ذكرًا كان أو أنثى، واحدًا أو متعددًا. فأما الأُم فلا تزيد على السدس مع أحد من الأولاد. وأما الأب فمع الذكور منهم، لا يستحق أزيد من السدس، فإن كان الولد أنثى أو إناثا ولم يبق بعد الفرض شيء -كأبوين وابنتين- لم يبق له تعصيب. وإن بقي بعد فرض البنت أو البنات شيء أخذ الأب السدس فرضًا، والباقي تعصيبًا، لأننا ألحقنا الفروض بأهلها، فما بقي فلأولى رجل ذكر، وهو أولى من الأخ والعم وغيرهما. فَإِن لَّمْ يَكُن لَّهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ أي: والباقي للأب لأنه أضاف المال إلى الأب والأُم إضافة واحدة، ثم قدر نصيب الأُم، فدل ذلك على أن الباقي للأب. وعلم من ذلك أن الأب مع عدم الأولاد لا فرض له، بل يرث تعصيبا المال كله، أو ما أبقت الفروض، لكن لو وجد مع الأبوين أحد الزوجين -ويعبر عنهما بالعمريتين- فإن الزوج أو الزوجة يأخذ فرضه، ثم تأخذ الأُم ثلث الباقي والأب الباقي. وقد دل على ذلك قوله: وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ أي: ثلث ما ورثه الأبوان. وهو في هاتين الصورتين إما سدس في زوج وأم وأب، وإما ربع في زوجة وأم وأب. فلم تدل الآية على إرث الأُم ثلثَ المال كاملا مع عدم الأولاد حتى يقال: إن هاتين الصورتين قد استثنيتا من هذا. ويوضح ذلك أن الذي يأخذه الزوج أو الزوجة بمنزلة ما يأخذه الغرماء، فيكون من رأس المال، والباقي بين الأبوين. ولأنا لو أعطينا الأُم ثلث المال، لزم زيادتها على الأب في مسألة الزوج، أو أخذ الأب في مسألة الزوجة زيادة عنها نصفَ السدس، وهذا لا نظير له، فإن المعهود مساواتها للأب، أو أخذه ضعفَ ما تأخذه الأم. فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ أشقاء، أو لأب، أو لأم، ذكورًا كانوا أو إناثًا، وارثين أو محجوبين بالأب أو الجد [لكن قد يقال: ليس ظاهرُ قوله: فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ شاملا لغير الوارثين بدليل عدم تناولها للمحجوب بالنصف، فعلى هذا لا يحجبها عن الثلث من الإخوة إلا الإخوة الوارثون. ويؤيده أن الحكمة في حجبهم لها عن الثلث لأجل أن يتوفر لهم شيء من المال، وهو معدوم، والله أعلم] ولكن بشرط كونهم اثنين فأكثر، ويشكل على ذلك إتيان لفظ "الإخوة" بلفظ الجمع. وأجيب عن ذلك بأن المقصود مجرد التعدد، لا الجمع، ويصدق ذلك باثنين. وقد يطلق الجمع ويراد به الاثنان، كما في قوله تعالى عن داود وسليمان وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ وقال في الإخوة للأُم: وَإِن كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِن كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ فأطلق لفظ الجمع والمراد به اثنان فأكثر بالإجماع. فعلى هذا لو خلف أمًّا وأبًا وإخوة، كان للأُم السدس، والباقي للأب فحجبوها عن الثلث، مع حجب الأب إياهم [إلا على الاحتمال الآخر فإن للأم الثلث والباقي للأب] ثم قال تعالى: مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ أي: هذه الفروض والأنصباء والمواريث إنما ترد وتستحق بعد نزع الديون التي على الميت لله أو للآدميين، وبعد الوصايا التي قد أوصى الميت بها بعد موته، فالباقي عن ذلك هو التركة الذي يستحقه الورثة. وقدم الوصية مع أنها مؤخرة عن الدين للاهتمام بشأنها، لكون إخراجها شاقًّا على الورثة، وإلا فالديون مقدمة عليها، وتكون من رأس المال. وأما الوصية فإنها تصح من الثلث فأقل للأجنبي الذي هو غير وارث. وأما غير ذلك فلا ينفذ إلا بإجازة الورثة، قال تعالى: آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فلو ردَّ تقدير الإرث إلى عقولكم واختياركم لحصل من الضرر ما الله به عليم، لنقص العقول وعدم معرفتها بما هو اللائق الأحسن، في كل زمان ومكان. فلا يدرون أَيُّ الأولادِ أو الوالِدين أنفع لهم، وأقرب لحصول مقاصدهم الدينية والدنيوية. فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا أي: فرضها الله الذي قد أحاط بكل شيء علمًا، وأحكم ما شرعه وقدَّر ما قدَّره على أحسن تقدير لا تستطيع العقول أن تقترح مثل أحكامه الصالحة الموافقة لكل زمان ومكان وحال. |
۞ وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِن لَّمْ يَكُن لَّهُنَّ وَلَدٌ ۚ فَإِن كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ ۚ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ ۚ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِن لَّمْ يَكُن لَّكُمْ وَلَدٌ ۚ فَإِن كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُم ۚ مِّن بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ ۗ وَإِن كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ ۚ فَإِن كَانُوا أَكْثَرَ مِن ذَٰلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ ۚ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَىٰ بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ ۚ وَصِيَّةً مِّنَ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ(12) التفسير المختصر: ولكم - أيها الأزواج - نصف ما تركت زوجاتكم؛ إن لم يكن لهن ولد -ذكرًا كان أو أنثى - منكم أو من غيركم، فإن كان لهن ولد - ذكرًا كان أو أنثى - فلكم الربع مما تركن من المال، يقسم لكم ذلك بعد تنفيذ وصيتهن، وقضاء ما عليهن من دين. وللزوجات الربع مما تركتم - أيها الأزواج - إن لم يكن لكم ولد - ذكرًا كان أو أنثى - منهن أو من غيرهن، فإن كان لكم ولد - ذكرًا كان أو أنثى - فلهن الثمن مما تركتم، يُقسم لهن ذلك بعد تنفيذ وصيتكم، وقضاء ما عليكم من دَين. وإن مات رجل ليس له والد ولا ولد، أو ماتت امرأة ليس لها والد ولا ولد، وكان للميت منهما أخ لأم أو أخت لأم؛ فلكل واحد من أخيه لأمه أو أخته لأمه السدس فرضًا، فإن كان الإخوة لأم أو الأخوات لأم أكثر من واحد؛ فلجميعهم الثلث فرضًا يشتركون فيه، يستوي في ذلك ذكرهم وأنثاهم، وإنما يأخذون نصيبهم هذا بعد تنفيذ وصية الميت، وقضاء ما عليه من دَين، بشرط أن تكون وصيته لا تُدْخِل الضرر على الورثة؛ كأن تكون وصية بأكثر من ثلث ماله، هذا الحكم الذي تضمَّنته الآية عهد من الله إليكم أوجبه عليكم، والله عليم بما يصلح عباده في الدنيا والآخرة، حليم لا يعاجل العاصي بالعقوبة. تفسير الجلالين: «ولكم نصف ما ترك أزواجكم إن لم يكن لهن ولد» منكم أو من غيركم «فإن كان لهن ولد فلكم الربع مما تركن من بعد وصية يوصين بها أو دين» وألحق بالولد في ذلك ولد الابن بالإجماع «ولهن» أي الزوجات تعددن أو لا «الربع مما تركتم إن لم يكن لكم ولد فإن كان لكم ولد» منهن أو من غيرهن «فلهن الثمن مما تركتم من بعد وصية توصون بها أو دين» وولد الابن في ذلك كالولد إجماعا «وإن كان رجل يورث» صفة والخبر «كلالة» أي لا والد له ولا ولد «أو امرأة» تورث كلالة «وله» أي للمورث كلالة «أخ أو أخت» أي من أم وقرأ به ابن مسعود وغيره «فلكل واحد منهما السدس» مما ترك «فإن كانوا» أي الإخوة والأخوات من الأم «أكثر من ذلك» أي من واحد «فهم شركاء في الثلث» يستوي فيه ذكرهم وأنثاهم «من بعد وصية يوصي بها أو دين غير مُضارّ» حال من ضمير يوصي أي غير مدخل الضرر على الورثة بأن يوصي بأكثر من الثلث «وصيةً» مصدر مؤكد ليوصيكم «من الله والله عليم» بما دبره لخلقه من الفرائض «حليم» بتأخير العقوبة عمن خالفه، وخصت السنة توريث من ذكر بمن ليس فيه مانع من قتل أو اختلاف دين أو رقٌ. تفسير السعدي: وَلَكُمْ أيها الأزواج نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِن لَّمْ يَكُن لَّهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِن لَّمْ يَكُنْ لَّكُمْ وَلَدٌ فَإِن كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُم مِّنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ ويدخل في مسمى الولد المشروط وجوده أو عدمه، ولد الصلب أو ولد الابن الذكر والأُنثى، الواحد والمتعدد، الذي من الزوج أو من غيره، ويخرج عنه ولد البنات إجماعًا. ثم قال تعالى: وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ أي: من أم، كما هي في بعض القراءات. وأجمع العلماء على أن المراد بالإخوة هنا الإخوة للأُم، فإذا كان يورث كلالة أي: ليس للميت والد ولا ولد أي: لا أب ولا جد ولا ابن ولا ابن ابن ولا بنت ولا بنت ابن وإن نزلوا. وهذه هي الكلالة كما فسرها بذلك أبو بكر الصديق رضي الله عنه، وقد حصل على ذلك الاتفاق ولله الحمد. فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا أي: من الأخ والأخت السُّدُسُ ، فَإِن كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ أي: من واحد فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ أي: لا يزيدون على الثلث ولو زادوا عن اثنين. ودل قوله: فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ أن ذَكَرهم وأنثاهم سواء، لأن لفظ "التشريك" يقتضي التسوية. ودل لفظ الْكَلَالَةِ على أن الفروع وإن نزلوا، والأصولَ الذكور وإن علوا، يُسقطون أولاد الأُم، لأن الله لم يورثهم إلا في الكلالة، فلو لم يكن يورث كلالة، لم يرثوا منه شيئًا اتفاقًا. ودل قوله: فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ أن الإخوة الأشقاء يَسقُطون في المسألة المسماة بالحمارية. وهى: زوج، وأم، وإخوة لأم، وإخوة أشقاء. للزوج النصف، وللأم السدس، وللأخوة للأم الثلث، ويسقط الأشقاء، لأن الله أضاف الثلث للإخوة من الأُم، فلو شاركهم الأشقاء لكان جمعا لما فرَّق الله حكمه. وأيضا فإن الإخوة للأم أصحاب فروض، والأشقاء عصبات. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: - "ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فلأولى رجل ذكر" - وأهل الفروض هم الذين قدَّر الله أنصباءهم، ففي هذه المسألة لا يبقى بعدهم شيء، فيَسْقُط الأشقاء، وهذا هو الصواب في ذلك. وأما ميراث الإخوة والأخوات الأشقاء أو لأب، فمذكور في قوله: يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ الآية. فالأخت الواحدة شقيقة أو لأب لها النصف، والثنتان لهما الثلثان، والشقيقة الواحدة مع الأخت للأب أو الأخوات تأخذ النصف، والباقي من الثلثين للأخت أو الأخوات لأب وهو السدس تكملة الثلثين. وإذ استغرقت الشقيقات الثلثين سقط الأخوات للأب كما تقدم في البنات وبنات الابن. وإن كان الإخوة رجالاً ونساءً فللذكر مثل حظ الأنثيين. فإن قيل: فهل يستفاد حكم ميراث القاتل، والرقيق، والمخالف في الدين، والمبعض، والخنثى، والجد مع الإخوة لغير أم، والعول، والرد، وذوي الأرحام، وبقية العصبة، والأخوات لغير أم مع البنات أو بنات الابن من القرآن أم لا؟ قيل: نعم، فيه تنبيهات وإشارات دقيقة يعسر فهمها على غير المتأمل تدل على جميع المذكورات. فأما (القاتل والمخالف في الدين) فيعرف أنهما غير وارثين من بيان الحكمة الإلهية في توزيع المال على الورثة بحسب قربهم ونفعهم الديني والدنيوي. وقد أشار تعالى إلى هذه الحكمة بقوله: لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا وقد عُلم أن القاتل قد سعى لمورثه بأعظم الضرر، فلا ينتهض ما فيه من موجب الإرث أن يقاوم ضرر القتل الذي هو ضد النفع الذي رتب عليه الإرث. فعُلم من ذلك أن القتل أكبر مانع يمنع الميراث، ويقطع الرحم الذي قال الله فيه: وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مع أنه قد استقرت القاعدة الشرعية أن "من استعجل شيئا قبل أوانه عوقب بحرمانه" وبهذا ونحوه يعرف أن المخالف لدين الموروث لا إرث له، وذلك أنه قد تعارض الموجب الذي هو اتصال النسب الموجب للإرث، والمانعُ الذي هو المخالفة في الدين الموجبة للمباينة من كل وجه، فقوي المانع ومنع موجب الإرث الذي هو النسب، فلم يعمل الموجب لقيام المانع. يوضح ذلك أن الله تعالى قد جعل حقوق المسلمين أولى من حقوق الأقارب الكفار الدنيوية، فإذا مات المسلم انتقل ماله إلى من هو أولى وأحق به. فيكون قوله تعالى: وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إذا اتفقت أديانهم، وأما مع تباينهم فالأخوة الدينية مقدمة على الأخوة النسبية المجردة. قال ابن القيم في "جلاء الأفهام": وتأمل هذا المعنى في آية المواريث، وتعليقه سبحانه التوارث فيها بلفظ الزوجة دون المرأة، كما في قوله تعالى: وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إيذانا بأن هذا التوارث إنما وقع بالزوجية المقتضية للتشاكل والتناسب، والمؤمن والكافر لا تشاكل بينهما ولا تناسب، فلا يقع بينهما التوارث. وأسرار مفردات القرآن ومركباته فوق عقول العالمين [انتهى]. وأما ( الرقيق ) فإنه لا يرث ولا يورث، أما كونه لا يورث فواضح، لأنه ليس له مال يورث عنه، بل كل ما معه فهو لسيده. وأما كونه لا يرث فلأنه لا يملك، فإنه لو ملك لكان لسيده، وهو أجنبي من الميت فيكون مثل قوله تعالى: لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْن وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ ونحوها لمن يتأتى منه التملك، وأما الرقيق فلا يتأتى منه ذلك، فعلم أنه لا ميراث له. وأما مَنْ بعضه حر وبعضه رقيق فإنه تتبعض أحكامه. فما فيه من الحرية يستحق بها ما رتبه الله في المواريث، لكون ما فيه من الحرية قابلا للتملك، وما فيه من الرق فليس بقابل لذلك، فإذا يكون المبعض، يرث ويورث، ويحجب بقدر ما فيه من الحرية. وإذا كان العبد يكون محمودا مذموما، مثابا ومعاقبا، بقدر ما فيه من موجبات ذلك، فهذا كذلك. وأما ( الخنثى ) فلا يخلو إما أن يكون واضحا ذكوريته أو أنوثيته، أو مشكلا. فإن كان واضحا فالأمر فيه واضح. إن كان ذكرا فله حكم الذكور، ويشمله النص الوارد فيهم. وإن كان أنثى فله حكم الإناث، ويشملها النص الوارد فيهن. وإن كان مشكلا، فإن كان الذكر والأنثى لا يختلف إرثهما -كالإخوة للأم- فالأمر فيه واضح، وإن كان يختلف إرثه بتقدير ذكوريته وبتقدير أنوثيته، ولم يبق لنا طريق إلى العلم بذلك، لم نعطه أكثر التقديرين، لاحتمال ظلم من معه من الورثة، ولم نعطه الأقل، لاحتمال ظلمنا له. فوجب التوسط بين الأمرين، وسلوكُ أعدل الطريقين، قال تعالى: اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وليس لنا طريق إلى العدل في مثل هذا أكثر من هذا الطريق المذكور. و لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وأما ( ميراث الجد ) مع الإخوة الأشقاء أو لأب، وهل يرثون معه أم لا؟ فقد دل كتاب الله على قول أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وأن الجد يحجب الإخوة أشقاء أو لأب أو لأم، كما يحجبهم الأب. وبيان ذلك: أن الجد أب في غير موضع من القرآن كقوله تعالى: إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ الآية. وقال يوسف عليه السلام: وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ فسمى الله الجد وجد الأب أبا، فدل ذلك على أن الجد بمنزلة الأب، يرث ما يرثه الأب، ويحجب من يحجبه. وإذا كان العلماء قد أجمعوا على أن الجد حكمه حكم الأب عند عدمه في ميراثه مع الأولاد وغيرهم من بني الإخوة والأعمام وبنيهم، وسائر أحكام المواريث، فينبغي أيضا أن يكون حكمُه حكمَه في حجب الإخوة لغير أم. وإذا كان ابن الابن بمنزلة ابن الصلب فلم لا يكون الجد بمنزلة الأب؟ وإذا كان جد الأب مع ابن الأخ قد اتفق العلماء على أنه يحجبه. فلم لا يحجب جد الميت أخاه؟ فليس مع مَنْ يورِّث الإخوةَ مع الجد، نص ولا إشارة ولا تنبيه ولا قياس صحيح. وأما مسائل (العول) فإنه يستفاد حكمها من القرآن، وذلك أن الله تعالى قد فرض وقدر لأهل المواريث أنصباء، وهم بين حالتين: إما أن يحجب بعضهم بعضًا أو لا. فإن حجب بعضهم بعضا، فالمحجوب ساقط لا يزاحِم ولا يستحق شيئا، وإن لم يحجب بعضهم بعضا فلا يخلو، إما أن لا تستغرق الفروض التركة، أو تستغرقها من غير زيادة ولا نقص، أو تزيد الفروض على التركة، ففي الحالتين الأوليين كل يأخذ فرضه كاملا. وفي الحالة الأخيرة وهي ما إذا زادت الفروض على التركة فلا يخلو من حالين: إما أن ننقص بعضَ الورثة عن فرضه الذي فرضه الله له، ونكمل للباقين منهم فروضهم، وهذا ترجيح بغير مرجح، وليس نقصان أحدهم بأولى من الآخر، فتعينت الحال الثانية، وهي: أننا نعطي كل واحد منهم نصيبه بقدر الإمكان، ونحاصص بينهم كديون الغرماء الزائدة على مال الغريم، ولا طريق موصل إلى ذلك إلا بالعول، فعلم من هذا أن العول في الفرائض قد بينه الله في كتابه. وبعكس هذه الطريقة بعينها يعلم ( الرد ) فإن أهل الفروض إذا لم تستغرق فروضُهم التركةَ وبقي شيء ليس له مستحق من عاصب قريب ولا بعيد، فإن رده على أحدهم ترجيح بغير مرجح، وإعطاؤه غيرَهم ممن ليس بقريب للميت جنف وميل، ومعارضة لقوله: وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ فتعين أن يُرَدَّ على أهل الفروض بقدر فروضهم. ولما كان الزوجان ليسا من القرابة، لم يستحقا زيادة على فرضهم المقدر [هذا عند من لا يورِّث الزوجين بالرد، وهم جمهور القائلين بالرد، فعلى هذا تكون علة الرد كونه صاحب فرض قريبا، وعلى القول الآخر، أن الزوجين كغيرهما من ذوي الفروض يُرَدُّ عليهما؛ فكما ينقصان بالعول فإنهما يزادان بالرد كغيرهما، فالعلة على هذا كونه وارثا صاحب فرض، فهذا هو الظاهر من دلالة الكتاب والسنة، والقياس الصحيح، والله أعلم] وبهذا يعلم أيضا ( ميراث ذوي الأرحام ) فإن الميت إذا لم يخلف صاحب فرض ولا عاصبا، وبقي الأمر دائرا بين كون ماله يكون لبيت المال لمنافع الأجانب، وبين كون ماله يرجع إلى أقاربه المدلين بالورثة المجمع عليهم، ويدل على ذلك قوله تعالى: وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ فصرفه لغيرهم ترك لمن هو أولى من غيره، فتعين توريث ذوي الأرحام. وإذا تعين توريثهم، فقد علم أنه ليس لهم نصيب مقدر بأعيانهم في كتاب الله. وأن بينهم وبين الميت وسائط، صاروا بسببها من الأقارب. فينزلون منزلة من أدلوا به من تلك الوسائط. والله أعلم. وأما ( ميراث بقية العصبة ) كالبنوة والأخوة وبنيهم، والأعمام وبنيهم إلخ فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فلأولي رجل ذكر" وقال تعالى: وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ فإذا ألحقنا الفروض بأهلها ولم يبق شيء، لم يستحق العاصب شيئًا، وإن بقي شيء أخذه أولي العصبة، وبحسب جهاتهم ودرجاتهم. فإن جهات العصوبة خمس: البنوة، ثم الأبوة، ثم الأخوة وبنوهم، ثم العمومة وبنوهم، ثم الولاء، فيقدم منهم الأقرب جهة. فإن كانوا في جهة واحدة فالأقرب منزلة، فإن كانوا في منزلة واحدة فالأقوى، وهو الشقيق، فإن تساووا من كل وجه اشتركوا. والله أعلم. وأما كون الأخوات لغير أم مع البنات أو بنات الابن عصبات، يأخذن ما فضل عن فروضهن، فلأنه ليس في القرآن ما يدل على أن الأخوات يسقطن بالبنات. فإذا كان الأمر كذلك، وبقي شيء بعد أخذ البنات فرضهن، فإنه يعطى للأخوات ولا يعدل عنهن إلى عصبة أبعد منهن، كابن الأخ والعم، ومن هو أبعد منهم. والله أعلم. |
تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ ۚ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ۚ وَذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ(13) التفسير المختصر: تلك الأحكام المذكورة في شأن اليتامى وغيرهم، شرائعُ الله التي شرعها لعباده ليعملوا بها، ومن يطع الله ورسوله بامتثال أوامره واجتناب نواهيه؛ يدخله الله جنات تجري الأنهار من تحت قصورها، ماكثين فيها لا يلحقهم فناء، وذلك الجزاء الإلهي هو الفلاح العظيم الذي لا يضاهيه فلاح. تفسير الجلالين: «تلك» الأحكام المذكورة من أمر اليتامى وما بعده «حدود الله» شرائعه التي حدَّها لعباده ليعملوا بها ولا يتعدوها «ومن يطع الله ورسوله» فيما حكم به «يدخله» بالياء والنون التفاتا «جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك الفوز العظيم». تفسير السعدي: أي: تلك التفاصيل التي ذكرها في المواريث حدود الله التي يجب الوقوف معها وعدم مجاوزتها، ولا القصور عنها، وفي ذلك دليل على أن الوصية للوارث منسوخة بتقديره تعالى أنصباء الوارثين. ثم قوله تعالى: تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فالوصية للوارث بزيادة على حقه يدخل في هذا التعدي، مع قوله صلى الله عليه وسلم: "لا وصية لوارث" ثم ذكر طاعة الله ورسوله ومعصيتهما عموما ليدخل في العموم لزوم حدوده في الفرائض أو ترك ذلك فقال: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ بامتثال أمرهما الذي أعظمه طاعتهما في التوحيد، ثم الأوامر على اختلاف درجاتها واجتناب نهيهما الذي أعظمُه الشرك بالله، ثم المعاصي على اختلاف طبقاتها يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا فمن أدى الأوامر واجتنب النواهي فلا بد له من دخول الجنة والنجاة من النار. وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ الذي حصل به النجاة من سخطه وعذابه، والفوز بثوابه ورضوانه بالنعيم المقيم الذي لا يصفه الواصفون. |
وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ(14) التفسير المختصر: ومن يعص الله ورسوله بتعطيل أحكامه وترك العمل بها، أو الشك فيها، ويتجاوز حدود ما شرعه؛ يدخله نارًا ماكثًا فيها، وله فيها عذاب مُذِلّ. تفسير الجلالين: «ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله» بالوجهين «نارا خالدا فيها وله» فيها «عذاب مهين» ذو إهانة روعي في الضمائر في الآيتين لفظ من وفي خالدين معناها. تفسير السعدي: وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ ويدخل في اسم المعصية الكفر فما دونه من المعاصي، فلا يكون فيها شبهة للخوارج القائلين بكفر أهل المعاصي فإن الله تعالى رتب دخول الجنة على طاعته وطاعة رسوله. ورتب دخول النار على معصيته ومعصية رسوله، فمن أطاعه طاعة تامة دخل الجنة بلا عذاب. ومن عصى الله ورسوله معصية تامة يدخل فيها الشرك فما دونه، دخل النار وخلد فيها، ومن اجتمع فيه معصية وطاعة، كان فيه من موجب الثواب والعقاب بحسب ما فيه من الطاعة والمعصية. وقد دلت النصوص المتواترة على أن الموحدين الذين معهم طاعة التوحيد، غير مخلدين في النار، فما معهم من التوحيد مانع لهم من الخلود فيها. |
وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِن نِّسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِّنكُمْ ۖ فَإِن شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّىٰ يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا(15) التفسير المختصر: واللاتي يرتكبن فاحشة الزنى من نسائكم محصنات وغير محصنات فاستشهدوا عليهن أربعة رجال مسلمين عدول، فإن شهدوا عليهن بارتكابها فاحبسوهن في البيوت عقوبة لهن، حتى تنقضي حياتهن بالموت، أو يجعل الله لهن طريقًا غير طريق الحبس. ثم بَيّن الله السبيل لهم بعد ذلك، فشرع جلد البِكْر الزانية مئة جلدة وتغريب عام، ورجم المُحصَنة. تفسير الجلالين: (واللاتي يأتين الفاحشة) الزنا (من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم) أي من رجالكم المسلمين (فإن شهدوا) عليهن بها (فأمسكوهن) احبسوهن (في البيوت) وامنعوهن من مخالطة الناس (حتى يتوفاهن الموت) أي ملائكته (أو) إلى أن (يجعل الله لهن سبيلا) طريقا إلى الخروج منها أمروا بذلك أول الإسلام ثم جعل لهن سبيلا بجلد البكر مائة وتغريبها عاما ورجم المحصنة، وفي الحديث لما بين الحد قال "" خذوا عني خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلا "" رواه مسلم. تفسير السعدي: أي: النساء اللاتي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ أي: الزنا، ووصفها بالفاحشة لشناعتها وقبحها. فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ أي: من رجالكم المؤمنين العدول. فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ أي: احبسوهن عن الخروج الموجب للريبة. وأيضا فإن الحبس من جملة العقوبات حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أي: هذا منتهى الحبس. أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا أي: طريقا غير الحبس في البيوت، وهذه الآية ليست منسوخة، وإنما هي مغياة إلى ذلك الوقت، فكان الأمر في أول الإسلام كذلك حتى جعل الله لهن سبيلا، وهو رجم المحصن وجلد غير المحصن. |
وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ فَآذُوهُمَا ۖ فَإِن تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَّحِيمًا(16) التفسير المختصر: واللذان يرتكبان فاحشة الزنى من الرجال - مُحْصَنيْن أو غير محصَنَيْن- فعاقبوهما باللسان واليد بما يحقق الإهانة والزجر، فإن أقلعا عمَّا كانا عليه، وصلحت أعمالهما؛ فأعرضوا عن أذاهما؛ لأن التائب من الذنب كمن لا ذنب له، إن الله كان توابًا على من تاب من عباده رحيمًا بهم. والاكتفاء بهذا النوع من العقاب كان في أول الأمر، ثم نُسِخ بعد ذلك بجلد البِكْر وتغريبه، وبرجم المُحصَن. تفسير الجلالين: «وَاًلَّلذّانِ» بتخفيف النون وتشديدها «يأتيانها» أي الفاحشة الزنا أو اللواط «منكم» أي الرجال «فآذوهما» بالسب والضرب بالنعال «فإن تابا» منها «وأصلحا» العمل «فأعرضوا عنهما» ولا تؤذوهما «إن الله كان توَّابا» على من تاب «رحيما» به وهذا منسوخ بالحد إن أريد بها الزنا وكذا إن أريد بها اللواط عن الشافعي لكن المفعول به لا يرجم عنده وإن كان محصنا بل يجلد ويغرب وإرادةُ اللواط أظهر بدليل تثنية الضمير والأول أراد الزاني والزانية ويرده تبيينهما بمن المتصلة بضمير الرجال واشتراكهما في الأذى والتوبة والإعراض وهو مخصوص بالرجال لما تقدم في النساء من الحبس. تفسير السعدي: و كذلك الَّلذَانِ يَأْتِيَانِهَا أي: الفاحشة مِنْكُمْ من الرجال والنساء فَآذُوهُمَا بالقول والتوبيخ والتعيير والضرب الرادع عن هذه الفاحشة، فعلى هذا يكون الرجال إذا فعلوا الفاحشة يؤذون، والنساء يحبسن ويؤذين. فالحبس غايته إلى الموت، والأذية نهايتها إلى التوبة والإصلاح، ولهذا قال: فَإِنْ تَابَا أي: رجعا عن الذنب الذي فعلاه وندما عليه، وعزما على أن لا يعودا وَأَصْلَحَا العمل الدال على صدق التوبة فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا أي: عن أذاهما إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا أي: كثير التوبة على المذنبين الخطائين، عظيم الرحمة والإحسان، الذي -من إحسانه- وفقهم للتوبة وقبلها منهم، وسامحهم عن ما صدر منهم. ويؤخذ من هاتين الآيتين أن بينة الزنا، لا بد أن تكون أربعة رجال مؤمنين، ومن باب أولى وأحرى اشتراط عدالتهم؛ لأن الله تعالى شدد في أمر هذه الفاحشة، سترًا لعباده، حتى إنه لا يقبل فيها النساء منفردات، ولا مع الرجال، ولا ما دون أربعة. ولا بد من التصريح بالشهادة، كما دلت على ذلك الأحاديث الصحيحة، وتومئ إليه هذه الآية لما قال: فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ لم يكتف بذلك حتى قال: فَإِنْ شَهِدُوا أي: لا بد من شهادة صريحة عن أمر يشاهد عيانًا، من غير تعريض ولا كناية. ويؤخذ منهما أن الأذية بالقول والفعل والحبس، قد شرعه الله تعزيرًا لجنس المعصية الذي يحصل به الزجر. |
إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ فَأُولَٰئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ۗ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا(17) التفسير المختصر: إنما يقبل الله توبة الذين أقدموا على ارتكاب الذنوب والمعاصي بجهل منهم لعاقبتها وشؤمها - وهذا شأن كل مرتكبِ ذنبٍ متعمدًا كان أو غير متعمد - ثم يرجعون منيبين إلى ربهم قبل معاينة الموت، فأولئك يقبل الله توبتهم، ويتجاوز عن سيئاتهم، وكان الله عليمًا بأحوال خلقه، حكيمًا في تقديره وتشريعه. تفسير الجلالين: «إنما التوبة على الله» أي التي كتب على نفسه قبولها بفضله «للذين يعملون السوء» المعصية «بجهالة» حال أي جاهلين إذا عصوا ربهم «ثم يتوبون من» زمن «قريب» قبل أن يغرغروا «فأولئك يتوب الله عليهم» يقبل توبتهم «وكان الله عليما» بخلقه «حكيما» في صنعه بهم. تفسير السعدي: توبة الله على عباده نوعان: توفيق منه للتوبة، وقبول لها بعد وجودها من العبد، فأخبر هنا -أن التوبة المستحقة على الله حق أحقه على نفسه، كرما منه وجودا، لمن عمل السوء أي: المعاصي بِجَهَالَةٍ أي: جهالة منه بعاقبتها وإيجابها لسخط الله وعقابه، وجهل منه بنظر الله ومراقبته له، وجهل منه بما تئول إليه من نقص الإيمان أو إعدامه، فكل عاص لله، فهو جاهل بهذا الاعتبار وإن كان عالما بالتحريم. بل العلم بالتحريم شرط لكونها معصية معاقبا عليها ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ يحتمل أن يكون المعنى: ثم يتوبون قبل معاينة الموت، فإن الله يقبل توبة العبد إذا تاب قبل معاينة الموت والعذاب قطعا. وأما بعد حضور الموت فلا يُقبل من العاصين توبة ولا من الكفار رجوع، كما قال تعالى عن فرعون: حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ الآية. وقال تعالى: فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وقال هنا: وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أي: المعاصي فيما دون الكفر. حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وذلك أن التوبة في هذه الحال توبة اضطرار لا تنفع صاحبها، إنما تنفع توبة الاختيار. ويحتمل أن يكون معنى قوله: مِنْ قَرِيبٍ أي: قريب من فعلهم للذنب الموجب للتوبة، فيكون المعنى: أن من بادر إلى الإقلاع من حين صدور الذنب وأناب إلى الله وندم عليه فإن الله يتوب عليه، بخلاف من استمر على ذنوبه وأصر على عيوبه، حتى صارت فيه صفاتٍ راسخةً فإنه يعسر عليه إيجاد التوبة التامة. والغالب أنه لا يوفق للتوبة ولا ييسر لأسبابها، كالذي يعمل السوء على علم تام ويقين وتهاون بنظر الله إليه، فإنه سد على نفسه باب الرحمة. نعم قد يوفق الله عبده المصر على الذنوب عن عمد ويقين لتوبة تامة [التي] يمحو بها ما سلف من سيئاته وما تقدم من جناياته، ولكن الرحمة والتوفيق للأول أقرب، ولهذا ختم الآية الأولى بقوله: وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا فمِن علمه أنه يعلم صادق التوبة وكاذبها فيجازي كلا منهما بحسب ما يستحق بحكمته، ومن حكمته أن يوفق من اقتضت حكمته ورحمته توفيقَه للتوبة، ويخذل من اقتضت حكمته وعدله عدمَ توفيقه. والله أعلم. |
وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّىٰ إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ ۚ أُولَٰئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا(18) التفسير المختصر: ولا يقبل الله توبة الذين يُصرُّون على المعاصي، ولا يتوبون منها إلى أن يعاينوا سكرات الموت، فعندئذ يقول الواحد منهم: إني تبت الآن مما ارتكبته من المعاصي. ولا يقبل الله - كذلك - توبة الذين يموتون وهم مُصِرُّون على الكفر، أولئك العصاة المُصِرُّون على المعاصي، والذين يموتون وهم على كفرهم؛ أعددنا لهم عذابًا أليمًا. تفسير الجلالين: «وليست التوبة للذين يعملون السيئات» الذنوب «حتى إذا حضر أحدهم الموتُ» وأخذ في النزع «قال» عند مشاهدة ما هو فيه «إنِّي تبت الآن» فلا ينفعه ذلك ولا يقبل منه «ولا الذين يموتون وهم كفار» إذا تابوا في الآخرة عند معاينة العذاب لا تقبل منهم «أولئك أعتدنا» أعددنا «لهم عذابا أليما» مؤلما. تفسير السعدي: وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أي: المعاصي فيما دون الكفر. حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وذلك أن التوبة في هذه الحال توبة اضطرار لا تنفع صاحبها، إنما تنفع توبة الاختيار. ويحتمل أن يكون معنى قوله: مِنْ قَرِيبٍ أي: قريب من فعلهم للذنب الموجب للتوبة، فيكون المعنى: أن من بادر إلى الإقلاع من حين صدور الذنب وأناب إلى الله وندم عليه فإن الله يتوب عليه، بخلاف من استمر على ذنوبه وأصر على عيوبه، حتى صارت فيه صفاتٍ راسخةً فإنه يعسر عليه إيجاد التوبة التامة. والغالب أنه لا يوفق للتوبة ولا ييسر لأسبابها، كالذي يعمل السوء على علم تام ويقين وتهاون بنظر الله إليه، فإنه سد على نفسه باب الرحمة. نعم قد يوفق الله عبده المصر على الذنوب عن عمد ويقين لتوبة تامة [التي] يمحو بها ما سلف من سيئاته وما تقدم من جناياته، ولكن الرحمة والتوفيق للأول أقرب، ولهذا ختم الآية الأولى بقوله: وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا فمِن علمه أنه يعلم صادق التوبة وكاذبها فيجازي كلا منهما بحسب ما يستحق بحكمته، ومن حكمته أن يوفق من اقتضت حكمته ورحمته توفيقَه للتوبة، ويخذل من اقتضت حكمته وعدله عدمَ توفيقه. والله أعلم. |
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا ۖ وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ ۚ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ ۚ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا(19) التفسير المختصر: يا أيها الذين آمنوا بالله واتبعوا رسوله، لا يجوز لكم أن ترثوا نساء آبائكم وأقاربكم كما يُورثُ المال، وتتصرفوا فيهن بالزواج بهن، أو تزويجهن ممن تشاؤون، أو منعهن من الزواج. ولا يجوز لكم إمساك أزواجكم اللاتي تكرهونهن للإضرار بهن، حتى يتنازلن لكم عن بعض ما أعطيتموهن من مهر وغيره، إلا أن يرتكبن فاحشة واضحة كالزنى، فإذا فعلن ذلك جاز لكم إمساكهن والتضييق عليهن حتى يفتدين منكم بما أعطيتموهن، وصاحبوا نساءكم صحبة طيبة، بكف الأذى وبذل الإحسان، فإن كرهتموهن لأمر دنيوي فاصبروا عليهن؛ فلعل الله يجعل فيما تكرهون خيرًا كثيرًا في الحياة الدنيا والآخرة. تفسير الجلالين: «يا أيُّها الذين آمنوا لا يحلُّ لكم أن ترثوا النساء» أي ذاتهن «كرها» بالفتح والضم لغتان أي مكرهيهن على ذلك كانوا في الجاهلية يرثون نساء أقربائهم فإن شاءوا تزوجوهن بلا صداق أو زوَّجوهن وأخذوا صداقهن أو عضلوهن حتى يفتدين بما ورثنه أو يمتن فيرثوهن فنُهوا عن ذلك «ولا» أن «تعضلوهن» أي تمنعوا أزواجكم عن نكاح غيركم بإمساكهن ولا رغبة لكم فيهن ضرارا «لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن» من المهر «إلا أن يأتين بفاحشة مبيَّنة» بفتح الياء وكسرها أي بينت أو هي بينة أي زنا أو نشوز فلكم أن تضاروهن حتى يفتدين منكم ويختلعن «وعاشروهن بالمعروف» أي بالإجمال في القول والنفقة والمبيت «فإن كرهتموهن» فاصبروا «فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا» ولعله يجعل فيهن ذلك بأن يرزقكم منهن ولدا صالحا. تفسير السعدي: كانوا في الجاهلية إذا مات أحدهم عن زوجته، رأى قريبُه كأخيه وابن عمه ونحوهما أنه أحق بزوجته من كل أحد، وحماها عن غيره، أحبت أو كرهت. فإن أحبها تزوجها على صداق يحبه دونها، وإن لم يرضها عضلها فلا يزوجها إلا من يختاره هو، وربما امتنع من تزويجها حتى تبذل له شيئًا من ميراث قريبه أو من صداقها، وكان الرجل أيضا يعضل زوجته التي [يكون] يكرهها ليذهب ببعض ما آتاها، فنهى الله المؤمنين عن جميع هذه الأحوال إلا حالتين: إذا رضيت واختارت نكاح قريب زوجها الأول، كما هو مفهوم قوله: كَرْهًا وإذا أتين بفاحشة مبينة كالزنا والكلام الفاحش وأذيتها لزوجها فإنه في هذه الحال يجوز له أن يعضلها، عقوبة لها على فعلها لتفتدي منه إذا كان عضلا بالعدل. ثم قال: وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ وهذا يشمل المعاشرة القولية والفعلية، فعلى الزوج أن يعاشر زوجته بالمعروف، من الصحبة الجميلة، وكف الأذى وبذل الإحسان، وحسن المعاملة، ويدخل في ذلك النفقة والكسوة ونحوهما، فيجب على الزوج لزوجته المعروف من مثله لمثلها في ذلك الزمان والمكان، وهذا يتفاوت بتفاوت الأحوال. فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا أي: ينبغي لكم -أيها الأزواج- أن تمسكوا زوجاتكم مع الكراهة لهن، فإن في ذلك خيرًا كثيرًا. من ذلك امتثال أمر الله، وقبولُ وصيته التي فيها سعادة الدنيا والآخرة. ومنها أن إجباره نفسَه -مع عدم محبته لها- فيه مجاهدة النفس، والتخلق بالأخلاق الجميلة. وربما أن الكراهة تزول وتخلفها المحبة، كما هو الواقع في ذلك. وربما رزق منها ولدا صالحا نفع والديه في الدنيا والآخرة. وهذا كله مع الإمكان في الإمساك وعدم المحذور. فإن كان لا بد من الفراق، وليس للإمساك محل، فليس الإمساك بلازم. |
وَإِنْ أَرَدتُّمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَّكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا ۚ أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا(20) التفسير المختصر: وإن أردتم - أيها الأزواج - تطليق امرأة، واستبدال غيرها بها؛ فلا حرج عليكم في ذلك، وإن كنتم أعطيتم التي عزمتم على فراقها مالًا كثيرًا مهرًا لها؛ فلا يجوز لكم أخذ شيء منه، فإنَّ أَخْذ ما أعطيتموهن يُعدُّ افتراءً مبينًا وإثمًا واضحًا! تفسير الجلالين: «وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج» أي أخذها بدلها بأن طلقتموها «و» قد «آتيتم إحداهن» أي الزوجات «قنطارا» مالا كثيرا صداقا «فلا تأخذوا منه شيئا أتأخُذُونهُ بهتانا» ظلما «وإثما مبينا» بينا ونصبهما على الحال، والاستفهامُ للتوبيخ وللإنكار في قوله. تفسير السعدي: بل متى أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ أي: تطليقَ زوجة وتزوجَ أخرى. أي: فلا جناح عليكم في ذلك ولا حرج. ولكن إذا آتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ أي: المفارقة أو التي تزوجها قِنْطَارًا أي: مالا كثيرا. فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا بل وفروه لهن ولا تمطلوا بهن. وفي هذه الآية دلالة على عدم تحريم كثرة المهر، مع أن الأفضل واللائق الاقتداءُ بالنبي صلى الله عليه وسلم في تخفيف المهر. ووجه الدلالة أن الله أخبر عن أمر يقع منهم، ولم ينكره عليهم، فدل على عدم تحريمه [لكن قد ينهي عن كثرة الصداق إذا تضمن مفسدة دينية وعدم مصلحة تقاوم] ثم قال: أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا فإن هذا لا يحل ولو تحيلتم عليه بأنواع الحيل، فإن إثمه واضح. |
وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَىٰ بَعْضُكُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا(21) التفسير المختصر: وكيف تأخذون ما أعطيتموهن من المهر بعد الذي حصل بينكم من علاقة ومودة واستمتاع واطلاع على الأسرار، فإن الطمع بما في أيديهن من مال بعد هذا أمر مُنكَر ومستقبَح، وقد أخذن منكم عهدًا موثَّقًا شديدًا، وهو استحلالهن بكلمة الله تعالى وشرعه. تفسير الجلالين: «وكيف تأخذونه» أي بأي وجه «وقد أفضى» وصل «بعضكم إلى بعض» بالجماع المقرر للمهر «وأخذن منكم ميثاقا» عهدا «غليظا» شديدا وهو ما أمر الله به من إمساكهن بمعروف أو تسريحهن بإحسان. تفسير السعدي: وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا وبيان ذلك: أن الزوجة قبل عقد النكاح محرمة على الزوج ولم ترض بحلها له إلا بذلك المهر الذي يدفعه لها، فإذا دخل بها وأفضى إليها وباشرها المباشرة التي كانت حراما قبل ذلك، والتي لم ترض ببذلها إلا بذلك العوض، فإنه قد استوفى المعوض فثبت عليه العوض. فكيف يستوفي المعوض ثم بعد ذلك يرجع على العوض؟ هذا من أعظم الظلم والجور، وكذلك أخذ الله على الأزواج ميثاقا غليظا بالعقد، والقيام بحقوقها. |
وَلَا تَنكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُم مِّنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ ۚ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا(22) التفسير المختصر: ولا تتزوَّجوا ما تزوجه آباؤكم من النساء؛ فإن ذلك محرَّم، إلا ما سبق من ذلك قبل الإسلام فلا مؤاخذة عليه، ذلك أن تزوج الأبناء من زوجات آبائهم أمرٌ يعظم قُبْحُه، وسبب غضب الله على فاعله، وساء طريقًا لمن سلكها. تفسير الجلالين: «ولا تنكحوا ما» بمعنى من «نكح آباؤكم من النساء إلا» لكن «ما قد سلف» من فعلكم ذلك فانه معفوّ عنه «إنه» أي نكاحهن «كان فاحشة» قبيحا «ومقتا» سببا للمقت من الله وهو أشد البغض «وساء» بئس «سبيلا» طريقا ذلك. تفسير السعدي: أي: لا تتزوجوا من النساء ما تزوجهن آباؤكم أي: الأب وإن علا. إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً أي: أمرا قبيحا يفحش ويعظم قبحه وَمَقْتًا من الله لكم ومن الخلق بل يمقت بسبب ذلك الابن أباه والأب ابنه، مع الأمر ببره. وَسَاءَ سَبِيلًا أي: بئس الطريق طريقا لمن سلكه لأن هذا من عوائد الجاهلية، التي جاء الإسلام بالتنزه عنها والبراءة منها. |
حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُم مِّنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُم مِّن نِّسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُم بِهِنَّ فَإِن لَّمْ تَكُونُوا دَخَلْتُم بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ وَأَن تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا(23) التفسير المختصر: حَرَّم الله عليكم نكاح أمهاتكم وإن عَلَوْن؛ أي: أم الأم وجدتها من جهة الأب أو الأم، وبناتكم وإن نزلن؛ أي: بنتها وبنت بنتها، وكذلك بنات الابن وبنات البنت وإن نزلن، وأخواتكم من أبويكم أو من أحدهما، وعماتكم، وكذلك عمات آبائكم وأمهاتكم وإن عَلَوْن، وخالاتكم، وكذلك خالات أمهاتكم وآبائكم وإن علَوْن، وبنات الأخ وبنات الأخت، وأولادهن وإن نزلوا، وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم، وأخواتكم من الرضاعة، وأمهات زوجاتكم سواء دخلتم بهن أو لم تدخلوا بهن، وبنات زوجاتكم من غيركم اللاتي ينشأن ويتربين في بيوتكم غالبًا، وكذلك إذا لم يتربين فيها، إن كنتم دخلتم بأمهاتهن، وأما إذا لم تدخلوا بهن فلا حرج عليكم في نكاح بناتهن، وحرم عليكم نكاح زوجات أبنائكم الذين من أصلابكم، ولو لم يدخلوا بهن، ويدخل في هذا الحكم زوجات أبنائكم من الرضاعة، وحرم عليكم الجمع بين الأختين من النسب أو الرضاعة إلا ما مضى من ذلك في الجاهلية فقد عفا الله عنه، إن الله كان غفورًا لعباده التائبين إليه، رحيمًا بهم. وثبت في السُّنَّة تحريم الجمع كذلك بين المرأة وعمتها أو خالتها. تفسير الجلالين: (حرمت عليكم أمهاتكم) أن تنكحوهن وشملت الجدات من قبل الأب أو الأم (وبناتكم) وشملت بنات الأولاد وإن سفلن (وأخواتكم) من جهة الأب أو الأم (وعماتكم) أي أخوات آبائكم وأجدادكم (وخالاتكم) أي أخوات أمهاتكم وجداتكم (وبنات الأخ وبنات الأخت) ويدخل فيهن أولادهم (وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم) قبل استكمال الحولين خمس رضعات كما بينه الحديث (وأخواتكم من الرضاعة) ويلحق بذلك بالسنة البنات منها وهن من أرضعتهم موطوأته والعمات والخالات وبنات الأخ وبنات الأخت منها لحديث: "" يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب "" رواه البخاري ومسلم (وأمهات نسائكم وربائبكم) جمع ربيبة وهي بنت الزوجة من غيره (اللاتي في حجوركم) تربونهن. صفة موافقة للغالب فلا مفهوم لها (من نسائكم اللاتي دخلتم بهن) أي جامعتموهن (فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم) في نكاح بناتهن إذا فارقتموهن (وحلائل) أزواج (أبنائكم الذين من أصلابكم) بخلاف من تبنيتموهم فلكم نكاح حلائلهم (وأن تجمعوا بين الأختين) من نسب أو رضاع بالنكاح ويلحق بهما بالسنة الجمع بينها وبين عمتها أو خالتها ويجوز نكاح كل واحدة على الانفراد وملكهما معا ويطأ واحدة (إلا) لكن (ما قد سلف) في الجاهلية من نكاحهم بعض ما ذكر فلا جناح عليكم فيه (إن الله كان غفورا) لما سلف منكم قبل النهي (رحيما) بكم في ذلك. تفسير السعدي: هذه الآيات الكريمات مشتملات على المحرمات بالنسب، والمحرمات بالرضاع، والمحرمات بالصهر، والمحرمات بالجمع، وعلى المحللات من النساء. فأما المحرمات في النسب فهن السبع اللاتي ذكرهن الله. الأم يدخل فيها كل من لها عليك ولادة، وإن بعدت، ويدخل في البنت كل من لك عليها ولادة، والأخوات الشقيقات، أو لأب أو لأم. والعمة: كل أخت لأبيك أو لجدك وإن علا. والخالة: كل أخت لأمك، أو جدتك وإن علت وارثة أم لا. وبنات الأخ وبنات الأخت أي: وإن نزلت. فهؤلاء هن المحرمات من النسب بإجماع العلماء كما هو نص الآية الكريمة وما عداهن فيدخل في قوله: وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ وذلك كبنت العمة والعم وبنت الخال والخالة. وأما المحرمات بالرضاع فقد ذكر الله منهن الأم والأخت. وفي ذلك تحريم الأم مع أن اللبن ليس لها، إنما هو لصاحب اللبن، دل بتنبيهه على أن صاحب اللبن يكون أبا للمرتضع فإذا ثبتت الأبوة والأمومة ثبت ما هو فرع عنهما كإخوتهما وأصولهم وفروعهم وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب" فينتشر التحريم من جهة المرضعة ومن له اللبن كما ينتشر في الأقارب، وفي الطفل المرتضع إلى ذريته فقط. لكن بشرط أن يكون الرضاع خمس رضعات في الحولين كما بينت السنة. وأما المحرمات بالصهر فهن أربع. حلائل الآباء وإن علوا، وحلائل الأبناء وإن نزلوا، وارثين أو محجوبين. وأمهات الزوجة وإن علون، فهؤلاء الثلاث يحرمن بمجرد العقد. والرابعة: الربيبة وهي بنت زوجته وإن نزلت، فهذه لا تحرم حتى يدخل بزوجته كما قال هنا وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ الآية. وقد قال الجمهور: إن قوله: اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ قيد خرج مخرج الغالب لا مفهوم له، فإن الربيبة تحرم ولو لم تكن في حجره ولكن للتقييد بذلك فائدتان: إحداهما: فيه التنبيه على الحكمة في تحريم الربيبة وأنها كانت بمنزلة البنت فمن المستقبح إباحتها. والثانية: فيه دلالة على جواز الخلوة بالربيبة وأنها بمنزلة من هي في حجره من بناته ونحوهن. والله أعلم. وأما المحرمات بالجمع فقد ذكر الله الجمع بين الأختين وحرمه وحرم النبي صلى الله عليه وسلم الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها، فكل امرأتين بينهما رحم محرم لو قدر إحداهما ذكرًا والأخرى أنثى حرمت عليه فإنه يحرم الجمع بينهما، وذلك لما في ذلك من أسباب التقاطع بين الأرحام. |
۞ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ۖ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ ۚ وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَاءَ ذَٰلِكُمْ أَن تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُم مُّحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ ۚ فَمَا اسْتَمْتَعْتُم بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً ۚ وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُم بِهِ مِن بَعْدِ الْفَرِيضَةِ ۚ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا(24) التفسير المختصر: وحرم عليكم نكاح المتزوجات من النساء، إلا ما ملكتموهن بالسبي في الجهاد في سبيل الله، فيحل لكم وطؤهن بعد استبراء أرحامهن بحيضة، فرض الله ذلك عليكم فرضًا، وأحل الله ما عدا ذلكم من النساء، أن تطلبوا بأموالكم إحصان أنفسكم وإعفافها بالحلال غير قاصدين الزنى، فمن تمتعتم بهن بالنكاح فأعطوهن مهورهن التي جعلها الله فريضة واجبة عليكم، ولا إثم عليكم فيما وقع عليه تراضيكم من بعد تحديد المهر الواجب من زيادة عليه أو مسامحة في بعضه، إن الله كان عليمًا بخلقه لا يخفى عليه منهم شيء، حكيمًا في تدبيره وتشريعه. تفسير الجلالين: «و» حرمت عليكم «المحصَنات» أي ذوات الأزواج «من النساء» أن تنكحوهن قبل مفارقة أزواجهن حرائر مسلمات كن أو لا «إلا ما ملكت أيمانكم» من الإماء بالسبي فلكم وطؤهن وإن كان لهن أزواج في دار الحرب بعد الاستبراء «كتاب الله» نصب على المصدر أي كتب ذلك «عليكم وَأحلَّ» بالبناء للفاعل والمفعول «لكم ما وراء ذلكم» أي سوى ما حرم عليكم من النساء «أن تبتغوا» تطلبوا النساء «بأموالكم» بصداق أو ثمن «محصنين» متزوجين «غير مسافحين» زانين «فما» فمن «استمتعتم» تمتعتم «به منهن» ممن تزوجتم بالوطء «فآتوهن أجورهن» مهورهن التي فرضتم لهن «فريضة ولا جناح عليكم فيما تراضيتم» أنتم وهن «به من بعد الفريضة» من حطها أو بعضها أو زيادة عليها «إن الله كان عليما» بخلقه «حكيما» فيما دبره لهم. تفسير السعدي: وَ من المحرمات في النكاح وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ أي: ذوات الأزواج. فإنه يحرم نكاحهن ما دمن في ذمة الزوج حتى تطلق وتنقضي عدتها. إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ أي: بالسبي، فإذا سبيت الكافرة ذات الزوج حلت للمسلمين بعد أن تستبرأ. وأما إذا بيعت الأمة المزوجة أو وهبت فإنه لا ينفسخ نكاحها لأن المالك الثاني نزل منزلة الأول ولقصة بريرة حين خيرها النبي صلى الله عليه وسلم. وقوله: كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ أي: الزموه واهتدوا به فإن فيه الشفاء والنور وفيه تفصيل الحلال من الحرام. ودخل في قوله: وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ كلُّ ما لم يذكر في هذه الآية، فإنه حلال طيب. فالحرام محصور والحلال ليس له حد ولا حصر لطفًا من الله ورحمة وتيسيرًا للعباد. وقوله: أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ أي: تطلبوا من وقع عليه نظركم واختياركم من اللاتي أباحهن الله لكم حالة كونكم مُحْصِنِينَ أي: مستعفين عن الزنا، ومعفين نساءكم. غَيْرَ مُسَافِحِينَ والسفح: سفح الماء في الحلال والحرام، فإن الفاعل لذلك لا يحصن زوجته لكونه وضع شهوته في الحرام فتضعف داعيته للحلال فلا يبقى محصنا لزوجته. وفيها دلالة على أنه لا يزوج غير العفيف لقوله تعالى: الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ . فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ أي: ممن تزوجتموها فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ أي: الأجور في مقابلة الاستمتاع. ولهذا إذا دخل الزوج بزوجته تقرر عليه صداقها فَرِيضَةً أي: إتيانكم إياهن أجورهن فرض فرضه الله عليكم، ليس بمنزلة التبرع الذي إن شاء أمضاه وإن شاء رده. أو معنى قوله فريضة: أي: مقدرة قد قدرتموها فوجبت عليكم، فلا تنقصوا منها شيئًا. وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ أي: بزيادة من الزوج أو إسقاط من الزوجة عن رضا وطيب نفس [هذا قول كثير من المفسرين، وقال كثير منهم: إنها نزلت في متعة النساء التي كانت حلالا في أول الإسلام ثم حرمها النبي صلى الله عليه وسلم وأنه يؤمر بتوقيتها وأجرها، ثم إذا انقضى الأمد الذي بينهما فتراضيا بعد الفريضة فلا حرج عليهما، والله أعلم]. إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا أي: كامل العلم واسعه، كامل الحكمة: فمن علمه وحكمته شرع لكم هذه الشرائع وحد لكم هذه الحدود الفاصلة بين الحلال والحرام. |
وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلًا أَن يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ۚ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُم ۚ بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ ۚ فَانكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ ۚ فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ۚ ذَٰلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنكُمْ ۚ وَأَن تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَّكُمْ ۗ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ(25) التفسير المختصر: ومن لم يستطع منكم - أيها الرجال - لقلة ماله أن يتزوج الحرائر من النساء جاز له نكاح الإماء المملوكات لغيركم، إن كن مؤمنات فيما يظهر لكم، والله أعلم بحقيقة إيمانكم وبواطن أحوالكم، وأنتم وهنَّ سواء في الدين والإنسانية، فلا تَسْتنكِفوا عن الزواج منهن، فتزوجوهن بإذن مالكيهن، وآتوهن مهورهن دون نقص أو مماطلة، هذا إن كن عفيفات غير زانيات علنًا، ولا متخذات أَخِلاَّء للزنى بهن سرًّا، فإذا تزوجن، ثم ارتكبن فاحشة الزنى فحدُّهن نصف عقوبة الحرائر: خمسين جلدة، ولا رجم عليهن، بخلاف المحصنات من الحرائر إذا زنين. ذلك المذكور من إباحة نكاح الإماء المؤمنات العفيفات رخصة لمن خاف على نفسه الوقوع في الزنى، ولم يقدر على الزواج من الحرائر، على أن الصبر عن نكاح الإماء أولى؛ لتجنيب الأولاد الاسترقاق، والله غفور لمن تاب من عباده، رحيم بهم، ومن رحمته أن شرع لهم نكاح الإماء حال العجز عن نكاح الحرائر عند خشية الزنى. تفسير الجلالين: (ومن لم يستطع منكم طولا) أي غنى لـ (أن ينكح المحصنات) الحرائر (المؤمنات) هو جري على الغالب فلا مفهوم له (فمن ما ملكت أيمانكم) ينكح (من فتياتكم المؤمنات والله أعلم بإيمانكم) فاكتفوا بظاهره وكِلوا السرائر إليه فإنه العالم بتفضيلها ورب أمة تفضل حرة فيه وهذا تأنيس بنكاح الإماء (بعضكم من بعض) أي أنتم وهن سواء في الدين فلا تستنكفوا من نكاحهن (فانكحوهن بإذن أهلهن) مواليهن (وآتوهن) أعطوهن. (أجورهن) مهورهن (بالمعروف) من غير مطل ونقص (محصنات) عفائف حال (غير مسافحات) زانيات جهرا (ولا متخذات أخذان) أخلاء يزنون بهن سرا (فإذا أحصن) زوجن وفي قراءة بالبناء للفاعل تزوجن (فإن أتين بفاحشة) زنا (فعليهن نصف ما على المحصنات) الحرائر الأبكار إذا زنين (من العذاب) الحد فيجلدن خمسين ويغربن نصف سنة ويقاس عليهن العبيد ولم يجعل الإحصان شرطا لوجوب الحد لإفادة أنه لا رجم عليهن أصلا (ذلك) أي نكاح المملوكات عند عدم الطول (لمن خشي) خاف (العنت) الزنا وأصله المشقة سمي به الزنا لأنه سببها بالحد في الدنيا والعقوبة في الآخرة (منكم) بخلاف من لا يخافه من الأحرار فلا يحل له نكاحها وكذا من استطاع طول حرة وعليه الشافعي وخرج بقوله "" من فتياتكم المؤمنات "" الكافرات: فلا يحل له نكاحها ولو عدل وخاف (وأن تصبروا) عن نكاح المملوكات (خير لكم) لئلا يصير الولد رقيقا (والله غفور رحيم) بالتوسعة في ذلك. تفسير السعدي: ثم قال تعالى وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا الآية. أي: ومن لم يستطع الطول الذي هو المهر لنكاح المحصنات أي: الحرائر المؤمنات وخاف على نفسه العَنَت أي: الزنا والمشقة الكثيرة، فيجوز له نكاح الإماء المملوكات المؤمنات. وهذا بحسب ما يظهر، وإلا فالله أعلم بالمؤمن الصادق من غيره، فأمور الدنيا مبنية على ظواهر الأمور، وأحكام الآخرة مبنية على ما في البواطن. فَانْكِحُوهُنَّ أي: المملوكات بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ أي: سيدهن واحدا أو متعددا. وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ أي: ولو كن إماء، فإنه كما يجب المهر للحرة فكذلك يجب للأمة. ولكن لا يجوز نكاح الإماء إلا إذا كن مُحْصَنَاتٍ أي: عفيفات عن الزنا غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ أي: زانيات علانية. وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ أي: أخلاء في السر. فالحاصل أنه لا يجوز للحر المسلم نكاح أمة إلا بأربعة شروط ذكرها الله: الإيمان بهن والعفة ظاهرا وباطنا، وعدم استطاعة طول الحرة، وخوف العنت، فإذا تمت هذه الشروط جاز له نكاحهن. ومع هذا فالصبر عن نكاحهن أفضل لما فيه من تعريض الأولاد للرق، ولما فيه من الدناءة والعيب. وهذا إذا أمكن الصبر، فإن لم يمكن الصبر عن المحرم إلا بنكاحهن وجب ذلك. ولهذا قال: وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ وقوله: فَإِذَا أُحْصِنَّ أي: تزوجن أو أسلمن أي: الإماء فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ أي: الحرائر مِنَ الْعَذَابِ وذلك الذي يمكن تنصيفه وهو: الجَلد فيكون عليهن خمسون جَلدة. وأما الرجم فليس على الإماء رجم لأنه لا يتنصف، فعلى القول الأول إذا لم يتزوجن فليس عليهن حد، إنما عليهن تعزير يردعهن عن فعل الفاحشة. وعلى القول الثاني: إن الإماء غير المسلمات، إذا فعلن فاحشة أيضا عزرن. وختم هذه الآية بهذين الاسمين الكريمين "الغفور والرحيم" لكون هذه الأحكام رحمةً بالعباد وكرمًا وإحسانًا إليهم فلم يضيق عليهم، بل وسع غاية السعة. ولعل في ذكر المغفرة بعد ذكر الحد إشارة إلى أن الحدود كفارات، يغفر الله بها ذنوب عباده كما ورد بذلك الحديث. وحكم العبد الذكر في الحد المذكور حكم الأمة لعدم الفارق بينهما. |
يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ(26) التفسير المختصر: يريد الله سبحانه بتشريعه هذه الأحكام لكم أن يبين لكم معالم شرعه ودينه، وما فيه مصالحكم في الدنيا والآخرة، ويريد أن يرشدكم إلى طرق الأنبياء من قبلكم في التحليل والتحريم، وشمائلهم الكريمة، وسيرهم الحميدة لتتبعوهم، ويريد أن يرجع بكم عن معصيته إلى طاعته، والله عليم بما فيه مصلحة عباده فيشرعه لهم، حكيم في تشريعه وتدبيره لشؤونهم. تفسير الجلالين: «يريد الله ليبين لكم» شرائع دينكم ومصالح أمركم «ويهديكم سنن» طرائق «الذين من قبلكم» من الأنبياء في التحليل والتحريم فتتَّبعوهم «وينوب عليكم» يرجع بكم عن معصيته التي كنتم عليها إلى طاعته «والله عليم» بكم «حكيم» فيما دبره لكم. تفسير السعدي: يخبر تعالى بمنته العظيمة ومنحته الجسيمة، وحسن تربيته لعباده المؤمنين وسهولة دينه فقال: يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ أي: جميع ما تحتاجون إلى بيانه من الحق والباطل، والحلال والحرام، وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ أي: الذين أنعم الله عليهم من النبيين وأتباعهم، في سيرهم الحميدة، وأفعالهم السديدة، وشمائلهم الكاملة، وتوفيقهم التام. فلذلك نفذ ما أراده، ووضح لكم وبين بيانا كما بين لمن قبلكم، وهداكم هداية عظيمة في العلم والعمل. وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ أي: يلطف لكم في أحوالكم وما شرعه لكم حتى تمكنوا من الوقوف على ما حده الله، والاكتفاء بما أحله فتقل ذنوبكم بسبب ما يسر الله عليكم فهذا من توبته على عباده. ومن توبته عليهم أنهم إذا أذنبوا فتح لهم أبواب الرحمة وأوزع قلوبهم الإنابة إليه، والتذلل بين يديه ثم يتوب عليهم بقبول ما وفقهم له. فله الحمد والشكر على ذلك. وقوله: وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ أي: كامل الحكمة، فمن علمه أن علمكم ما لم تكونوا تعلمون، ومنها هذه الأشياء والحدود. ومن حكمته أنه يتوب على من اقتضت حكمته ورحمته التوبة عليه، ويخذل من اقتضت حكمته وعدله من لا يصلح للتوبة. |
وَاللَّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا(27) التفسير المختصر: والله يريد أن يتوب عليكم، ويتجاوز عن سيئاتكم، ويريد الذين يسيرون خلف ملذاتهم، أن تبعدوا عن طريق الاستقامة بُعدًا شديدًا. تفسير الجلالين: «والله يريد أن يتوب عليكم» كرره ليبنى عليه «ويريد الذين يتبعون الشهوات» اليهود والنصارى أو المجوس أو الزناة «أن تميلوا ميلا عظيما» تعدلوا عن الحق بارتكاب ما حُرم عليكم فتكونوا مثلهم. تفسير السعدي: وقوله: وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ أي: توبة تلم شعثكم، وتجمع متفرقكم، وتقرب بعيدكم. وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أي: يميلون معها حيث مالت ويقدمونها على ما فيه رضا محبوبهم، ويعبدون أهواءهم، من أصناف الكفرة والعاصين، المقدمين لأهوائهم على طاعة ربهم، فهؤلاء يريدون أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا أي: [أن] تنحرفوا عن الصراط المستقيم إلى صراط المغضوب عليهم والضالين. يريدون أن يصرفوكم عن طاعة الرحمن إلى طاعة الشيطان، وعن التزام حدود من السعادة كلها في امتثال أوامره، إلى مَنْ الشقاوةُ كلها في اتباعه. فإذا عرفتم أن الله تعالى يأمركم بما فيه صلاحكم وفلاحكم وسعادتكم، وأن هؤلاء المتبعين لشهواتهم يأمرونكم بما فيه غاية الخسار والشقاء، فاختاروا لأنفسكم أوْلى الداعيين، وتخيّروا أحسن الطريقتين. |
يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ ۚ وَخُلِقَ الْإِنسَانُ ضَعِيفًا(28) التفسير المختصر: يريد الله أن يخفف عنكم فيما شرع، فلا يكلفكم ما لا تطيقون؛ لأنه عالم بضعف الإنسان في خَلْقه وخُلُقه. تفسير الجلالين: «يريد الله أن يخفف عنكم» يسهل عليكم أحكام الشرع «وخلق الإنسان ضعيفا» لا يصبر عن النساء والشهوات. تفسير السعدي: يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ أي: بسهولة ما أمركم به و [ما] نهاكم عنه، ثم مع حصول المشقة في بعض الشرائع أباح لكم ما تقتضيه حاجتكم، كالميتة والدم ونحوهما للمضطر، وكتزوج الأمة للحر بتلك الشروط السابقة. وذلك لرحمته التامة وإحسانه الشامل، وعلمه وحكمته بضعف الإنسان من جميع الوجوه، ضعف البنية، وضعف الإرادة، وضعف العزيمة، وضعف الإيمان، وضعف الصبر، فناسب ذلك أن يخفف الله عنه، ما يضعف عنه وما لا يطيقه إيمانه وصبره وقوته. |
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ ۚ وَلَا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا(29) التفسير المختصر: يا أيها الذين آمنوا بالله واتبَعوا رسوله، لا يأخذ بعضكم مال بعض بالباطل، كالغصب والسرقة والرشوة وغيرها، إلا أن تكون الأموال أموال تجارة صادرة عن تراضي المتعاقدين، فيحل لكم أكلها والتصرف فيها، ولا يقتل بعضكم بعضًا، ولا يقتل أحدكم نفسه، ولا يُلْقِ بها إلى التهلكة، إن الله كان بكم رحيمًا، ومن رحمته حَرَّم دماءكم وأموالكم وأعراضكم. تفسير الجلالين: «يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل» بالحرام في الشرع كالربا والغصب «إلا» لكن «أن تكون» تقع «تجارة» وفي قراءة بالنصب أن تكون الأموال أموال تجارة صادرة «عن تراضى منكم» وطيب نفس فلكم أن تأكلوها «ولا تقتلوا أنفسكم» بارتكاب ما يؤدي إلى هلاكها أيّا كان في الدنيا أو الآخرة بقرينة «إن الله كان بكم رحيما» في منعه لكم من ذلك. تفسير السعدي: ينهى تعالى عباده المؤمنين أن يأكلوا أموالهم بينهم بالباطل، وهذا يشمل أكلها بالغصوب والسرقات، وأخذها بالقمار والمكاسب الرديئة. بل لعله يدخل في ذلك أكل مال نفسك على وجه البطر والإسراف، لأن هذا من الباطل وليس من الحق. ثم إنه -لما حرم أكلها بالباطل- أباح لهم أكلها بالتجارات والمكاسب الخالية من الموانع، المشتملة على الشروط من التراضي وغيره. وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أي: لا يقتل بعضكم بعضًا، ولا يقتل الإنسان نفسه. ويدخل في ذلك الإلقاءُ بالنفس إلى التهلكة، وفعلُ الأخطار المفضية إلى التلف والهلاك إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا ومن رحمته أن صان نفوسكم وأموالكم، ونهاكم عن إضاعتها وإتلافها، ورتب على ذلك ما رتبه من الحدود. وتأمل هذا الإيجاز والجمع في قوله: لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ كيف شمل أموال غيرك ومال نفسك وقتل نفسك وقتل غيرك بعبارة أخصر من قوله: "لا يأكل بعضكم مال بعض" و "لا يقتل بعضكم بعضًا" مع قصور هذه العبارة على مال الغير ونفس الغير فقط. مع أن إضافة الأموال والأنفس إلى عموم المؤمنين فيه دلالة على أن المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم ومصالحهم كالجسد الواحد، حيث كان الإيمان يجمعهم على مصالحهم الدينية والدنيوية. ولما نهى عن أكل الأموال بالباطل التي فيها غاية الضرر عليهم، على الآكل، ومن أخذ ماله، أباح لهم ما فيه مصلحتهم من أنواع المكاسب والتجارات، وأنواع الحرف والإجارات، فقال: إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ أي: فإنها مباحة لكم. وشرط التراضي -مع كونها تجارة- لدلالة أنه يشترط أن يكون العقد غير عقد ربا لأن الربا ليس من التجارة، بل مخالف لمقصودها، وأنه لا بد أن يرضى كل من المتعاقدين ويأتي به اختيارًا. ومن تمام الرضا أن يكون المعقود عليه معلوما، لأنه إذا لم يكن كذلك لا يتصور الرضا مقدورًا على تسليمه، لأن غير المقدور عليه شبيه ببيع القمار، فبيع الغرر بجميع أنواعه خال من الرضا فلا ينفذ عقده. وفيها أنه تنعقد العقود بما دل عليها من قول أو فعل، لأن الله شرط الرضا فبأي طريق حصل الرضا انعقد به العقد. ثم ختم الآية بقوله: إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا ومن رحمته أن عصم دماءكم وأموالكم وصانها ونهاكم عن انتهاكها. |
وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا ۚ وَكَانَ ذَٰلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا(30) التفسير المختصر: ومن يفعل ذلك الذي نُهِي عنه فيأكل مال غيره أو يتعدى عليه بقتل ونحوه عالمًا متعديًا، لا جاهلًا أو ناسيًا؛ فسيدخله الله نارًا عظيمة يوم القيامة، يعاني حرها، ويقاسي عذابها، وكان ذلك على الله هينًا؛ لأنه قادر لا يعجزه شيء. تفسير الجلالين: «ومن يفعل ذلك» أي ما نُهي عنه «عُدوانا» تجاوزا للحلال حال «وظلما» تأكيد «فسوف نصليه» ندخله «نارا» يحترق فيها «وكان ذلك على الله يسيرا» هيِّنا. تفسير السعدي: ثم قال: وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ أي: أكل الأموال بالباطل وقتل النفوس عُدْوَانًا وَظُلْمًا أي: لا جهلا ونسيانا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا أي: عظيمة كما يفيده التنكير وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا |
إِن تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلًا كَرِيمًا(31) التفسير المختصر: إن تبتعدوا - أيها المؤمنون - عن فعل كبائر المعاصي مثل الشرك بالله، وعقوق الوالدين، وقتل النفس، وأكل الربا؛ نتجاوز عما ترتكبونه من صغائرها بتكفيرها ومحوها، وندخلكم مكانًا كريمًا عند الله، وهو الجنة. تفسير الجلالين: «إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه» وهي ما ورد عليها وعيد كالقتال والزنا والسرقة وعن ابن عباس هي إلى السبعمائة أقرب «نكفِّر عنكم سيِّئاتكم» الصغائر بالطاعات «وندخلكم مُدخلا» بضم الميم وفتحها أي إدخالا أو موضعا «كريما» هو الجنة. تفسير السعدي: وهذا من فضل الله وإحسانه على عباده المؤمنين وعدهم أنهم إذا اجتنبوا كبائر المنهيات غفر لهم جميع الذنوب والسيئات وأدخلهم مدخلا كريما كثير الخير وهو الجنة المشتملة على ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر. ويدخل في اجتناب الكبائر فعل الفرائض التي يكون تاركها مرتكبا كبيرة، كالصلوات الخمس، والجمعة، وصوم رمضان، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم "الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهما ما اجتنبت الكبائر" . وأحسن ما حُدت به الكبائر، أن الكبيرة ما فيه حد في الدنيا، أو وعيد في الآخرة، أو نفي إيمان، أو ترتيب لعنة، أو غضب عليه. |
وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ ۚ لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبُوا ۖ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبْنَ ۚ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِن فَضْلِهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا(32) التفسير المختصر: ولا تتمنّوا - أيها المؤمنون - ما فضَّل الله به بعضكم على بعض؛ لئلا يؤدي إلى السخط والحسد، فلا ينبغي للنساء أن يرتجين ما خص الله به الرجال، فإن لكل فريق حظًّا من الجزاء بحسبه، واطلبوا مِن الله أن يزيدَكم مِن عطائه؛ إن الله عليم بكل شيء؛ فأعطى كل نوع ما يناسبه. تفسير الجلالين: «ولا تتمنَّوا ما فضَّل الله به بعضكم على بعض» من جهة الدنيا أو الدين لئلا يؤدى إلى التحاسد والتباغض «للرجال نصيب» ثواب «مما اكتسبوا» بسبب ما عملوا من الجهاد وغيره «وللنساء نصيب مما اكتسبن» من طاعة أزواجهن وحفظ فروجهن نزلت لما قالت أم سلمة: ليتنا كنا رجالا فجاهدنا وكان لنا مثل أجر الرجال «واسألوا» بهمزة ودونها «الله من فضله» ما احتجتم إليه يعطكم «إن الله كان بكل شيء عليما» ومنه محل الفضل وسؤالكم. تفسير السعدي: ينهى تعالى المؤمنين عن أن يتمنى بعضهم ما فضل الله به غيره من الأمور الممكنة وغير الممكنة. فلا تتمنى النساء خصائص الرجال التي بها فضلهم على النساء، ولا صاحب الفقر والنقص حالة الغنى والكمال تمنيا مجردا لأن هذا هو الحسد بعينه، تمني نعمة الله على غيرك أن تكون لك ويسلب إياها. ولأنه يقتضي السخط على قدر الله والإخلاد إلى الكسل والأماني الباطلة التي لا يقترن بها عمل ولا كسب. وإنما المحمود أمران: أن يسعى العبد على حسب قدرته بما ينفعه من مصالحه الدينية والدنيوية، ويسأل الله تعالى من فضله، فلا يتكل على نفسه ولا على غير ربه. ولهذا قال تعالى: لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا أي: من أعمالهم المنتجة للمطلوب. وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ فكل منهم لا يناله غير ما كسبه وتعب فيه. وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ أي: من جميع مصالحكم في الدين والدنيا. فهذا كمال العبد وعنوان سعادته لا من يترك العمل، أو يتكل على نفسه غير مفتقر لربه، أو يجمع بين الأمرين فإن هذا مخذول خاسر. وقوله: إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا فيعطي من يعلمه أهلا لذلك، ويمنع من يعلمه غير مستحق. |
وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ ۚ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا(33) التفسير المختصر: ولكل واحد منكم جعلنا له عَصَبَة يرثون مما ترك الوالدان والأقربون من ميراث. والذين عقدتم معهم الأيمان المؤكدة على الحِلْف والنصرة فأعطوهم نصيبهم من الميراث، إن الله كان على كل شيء شهيدًا، ومن ذلك شهادته على أيمانكم وعهودكم هذه، والتوارث بالحِلْف كان في صدر الإسلام، ثم نُسِخ. تفسير الجلالين: «ولكلٌ» عن الرجال والنساء «جعلنا موالي» عصبة يعطون «مما ترك الوالدان والأقربون» لهم من المال «والذين عاقدت» بألف ودونها «أيمانكم» جمع يمين بمعنى القسم أو اليد أي الخلفاء الذين عاهدتموهم في الجاهلية على النصرة والإرث «فآتوهم» الآن «نصيبهم» حظوظهم من الميراث وهو السدس «إن الله على كل شيء شهيدا» مطلعا ومنه حالكم وهذا منسوخ بقوله (وأولوا الأرحام بعضهم أول ببعض). تفسير السعدي: أي: وَلِكُلٍّ من الناس جَعَلْنَا مَوَالِيَ أي: يتولونه ويتولاهم بالتعزز والنصرة والمعاونة على الأمور. مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وهذا يشمل سائر الأقارب من الأصول والفروع والحواشي، هؤلاء الموالي من القرابة. ثم ذكر نوعا آخر من الموالي فقال: وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ أي: حالفتموهم بما عقدتم معهم من عقد المحالفة على النصرة والمساعدة والاشتراك بالأموال وغير ذلك. وكل هذا من نعم الله على عباده، حيث كان الموالي يتعاونون بما لا يقدر عليه بعضهم مفردا. قال تعالى: فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ أي: آتوا الموالي نصيبهم الذي يجب القيام به من النصرة والمعاونة والمساعدة على غير معصية الله. والميراث للأقارب الأدنين من الموالي. إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا أي: مطلعا على كل شيء بعلمه لجميع الأمور، وبصره لحركات عباده، وسمعه لجميع أصواتهم. |
الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ ۚ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ ۚ وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ ۖ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا(34) التفسير المختصر: الرجال يَرْعَون النساء، ويقومون على شؤونهن، بسبب ما خصَّهم الله به من الفضل عليهن، وبسبب ما يجب عليهم من النفقة والقيام عليهن، والصالحات من النساء مطيعات لربهن، مطيعات لأزواجهن، حافظات لهم في غيبتهم بسبب توفيق الله لهن، واللاتي تخافون ترفُّعهن عن طاعة أزواجهن في قول أو فعل، فابدؤوا - أيها الأزواج- بتذكيرهن وتخويفهن من الله، فإن لم يستجبن فاهجروهن في الفراش، بأن يوليها ظهره ولا يجامعها، فإن لم يستجبن فاضربوهن ضربًا غير مبرِّح، فإن رجعن إلى الطاعة؛ فلا تعتدوا عليهن بظلم أو معاتبة، إن الله كان ذا علوٍّ على كل شيء، كبيرًا في ذاته وصفاته فخافوه. تفسير الجلالين: «الرِّجال قوَّامون» مسلطون «على النساء» يؤدبونهن ويأخذون على أيديهن «بما فضَّل الله بعضهم على بعض» أي بتفضيله لهم عليهن بالعلم والعقل والولاية وغير ذلك «وبما أنفقوا» عليهن «من أموالهم فالصالحات» منهن «قانتات» مطيعات لأزواجهن «حافظات للغيب» أي لفروجهن وغيرها في غيبة أزواجهن «بما حفظ» لهن «اللهُ» حيث أوصى عليهن الأزواج «والَّتي تخافون نشوزهن» عصيانهن لكم بأن ظهرت أمارته «فعظوهن» فخوِّفوهن الله «واهجروهن في المضاجع» اعتزلوا إلى فراش آخر إن أظهرن النشوز «واضربوهن» ضربا غير مبرح إن لم يرجعن بالهجران «فإن أطعنكم» فيما يراد منهن «فلا تبغوا» تطلبوا «عليهن سبيلا» طريقا إلى ضربهن ظلما «إن الله كان عليا كبيرا» فاحذروه أن يعاقبكم إن ظلمتموهن. تفسير السعدي: يخبر تعالى أن الرِّجَال قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ أي: قوامون عليهن بإلزامهن بحقوق الله تعالى، من المحافظة على فرائضه وكفهن عن المفاسد، والرجال عليهم أن يلزموهن بذلك، وقوامون عليهن أيضا بالإنفاق عليهن، والكسوة والمسكن، ثم ذكر السبب الموجب لقيام الرجال على النساء فقال: بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ أي: بسبب فضل الرجال على النساء وإفضالهم عليهن، فتفضيل الرجال على النساء من وجوه متعددة: من كون الولايات مختصة بالرجال، والنبوة، والرسالة، واختصاصهم بكثير من العبادات كالجهاد والأعياد والجمع. وبما خصهم الله به من العقل والرزانة والصبر والجلد الذي ليس للنساء مثله. وكذلك خصهم بالنفقات على الزوجات بل وكثير من النفقات يختص بها الرجال ويتميزون عن النساء. ولعل هذا سر قوله: وَبِمَا أَنْفَقُوا وحذف المفعول ليدل على عموم النفقة. فعلم من هذا كله أن الرجل كالوالي والسيد لامرأته، وهي عنده عانية أسيرة خادمة،فوظيفته أن يقوم بما استرعاه الله به. ووظيفتها: القيام بطاعة ربها وطاعة زوجها فلهذا قال: فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ أي: مطيعات لله تعالى حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ أي: مطيعات لأزواجهن حتى في الغيب تحفظ بعلها بنفسها وماله، وذلك بحفظ الله لهن وتوفيقه لهن، لا من أنفسهن، فإن النفس أمارة بالسوء، ولكن من توكل على الله كفاه ما أهمه من أمر دينه ودنياه. ثم قال: وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ أي: ارتفاعهن عن طاعة أزواجهن بأن تعصيه بالقول أو الفعل فإنه يؤدبها بالأسهل فالأسهل، فَعِظُوهُنَّ أي: ببيان حكم الله في طاعة الزوج ومعصيته والترغيب في الطاعة، والترهيب من معصيته، فإن انتهت فذلك المطلوب، وإلا فيهجرها الزوج في المضجع، بأن لا يضاجعها، ولا يجامعها بمقدار ما يحصل به المقصود، وإلا ضربها ضربًا غير مبرح، فإن حصل المقصود بواحد من هذه الأمور وأطعنكم فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا أي: فقد حصل لكم ما تحبون فاتركوا معاتبتها على الأمور الماضية، والتنقيب عن العيوب التي يضر ذكرها ويحدث بسببه الشر. إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا أي: له العلو المطلق بجميع الوجوه والاعتبارات، علو الذات وعلو القدر وعلو القهر الكبير الذي لا أكبر منه ولا أجل ولا أعظم، كبير الذات والصفات. |
وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِّنْ أَهْلِهَا إِن يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا(35) التفسير المختصر: وإن خفتم - يا أولياء الزوجين- أن يصل الخلاف بينهما إلى العداوة والتدابر، فابعثوا رجلًا عدلًا من أهل الزوج، ورجلًا عدلًا من أهل الزوجة؛ ليحكما بما فيه المصلحة من التفريق أو التوفيق بينهما، والتوفيق أحب وأولى، فإن أراده الحَكَمان وسلكا الأسلوب الأمثل إليه يوفق الله بين الزوجين، ويرتفع الخلاف بينهما، إن الله لا يخفى عليه شيء من عباده، وهو عليم بدقائق ما يخفونه في قلوبهم. تفسير الجلالين: «وإن خفتم» علمتم «شقاق» خلاف «بينهما» بين الزوجين والإضافة للاتساع أي شقاقا بينهما «فابعثوا» إليهما برضاهما «حكما» رجلا عدلا «من أهله» أقاربه «وحكما من أهلها» ويوكل الزوج حكمه في طلاق وقبول عوض عليه وتوكل هي حكمها في الاختلاع فيجتهدان ويأمران الظالم بالرجوع أو يُفَرِّقَان إن رأياه، قال تعالى: «إن يريدا» أي الحكمان «إصلاحا يوفِّق الله بينهما» بين الزوجين أي يقدرهما على ما هو الطاعة من إصلاح أو فراق «إن الله كان عليما» بكل شيء «خبيرا» بالبواطن كالظواهر. تفسير السعدي: أي: وإن خفتم الشقاق بين الزوجين والمباعدة والمجانبة حتى يكون كل منهما في شق فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا أي: رجلين مكلفين مسلمين عدلين عاقلين يعرفان ما بين الزوجين، ويعرفان الجمع والتفريق. وهذا مستفاد من لفظ "الحكم" لأنه لا يصلح حكما إلا من اتصف بتلك الصفات. فينظران ما ينقم كل منهما على صاحبه، ثم يلزمان كلا منهما ما يجب، فإن لم يستطع أحدهما ذلك، قنَّعا الزوج الآخر بالرضا بما تيسر من الرزق والخلق، ومهما أمكنهما الجمع والإصلاح فلا يعدلا عنه. فإن وصلت الحال إلى أنه لا يمكن اجتماعهما وإصلاحهما إلا على وجه المعاداة والمقاطعة ومعصية الله، ورأيا أن التفريق بينهما أصلح، فرقا بينهما. ولا يشترط رضا الزوج، كما يدل عليه أن الله سماهما حكمين، والحكم يحكم ولو لم يرض المحكوم عليه، ولهذا قال: إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا أي: بسبب الرأي الميمون والكلام الذي يجذب القلوب ويؤلف بين القرينين. إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا أي: عالمًا بجميع الظواهر والبواطن، مطلعا على خفايا الأمور وأسرارها. فمن علمه وخبره أن شرع لكم هذه الأحكام الجليلة والشرائع الجميلة. |
۞ وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ۖ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا(36) التفسير المختصر: واعبدوا الله وحده بالانقياد له، ولا تعبدوا معه سواه، وأحسنوا إلى الوالدين بإكرامهما وبرِّهما، وأحسنوا إلى الأقارب واليتامى وذوي الحاجة، وأحسنوا إلى الجار ذي القرابة، والجار الذي لا قرابة له، وأحسنوا إلى الصاحب المرافق لكم، وأحسنوا إلى المسافر الغريب الذي انقطعت به السبل، وأحسنوا إلى مماليككم، إن الله لا يحب من كان معجبًا بنفسه، متكبرًا على عباده، مادحًا لنفسه على وجه الفخر على الناس. تفسير الجلالين: «واعبدوا الله» وحِّدوه «ولا تُشركوا به شيئا و» أحسنوا «بالوالدين إحسانا» برّا ولين جانب «وبذي القربى» القرابة «واليتامى والمساكين والجار ذي القربى» القريب منك في الجوار أو النسب «والجار الجُنُب» البعيد عنك في الجوار أو النسب «والصاحب بالجنب» الرفيق في سفر أو صناعة وقيل الزوجة «وابن السبيل» المنقطع في سفره «وما ملكت أيمانكم» من الأرقاء «إن الله لا يحب من كان مختالا» متكبرا «فخورا» على الناس بما أوتي. تفسير السعدي: يأمر تعالى عباده بعبادته وحده لا شريك له، وهو الدخول تحت رق عبوديته، والانقياد لأوامره ونواهيه، محبة وذلا وإخلاصا له، في جميع العبادات الظاهرة والباطنة. وينهى عن الشرك به شيئا لا شركا أصغر ولا أكبر، لا ملكا ولا نبيا ولا وليا ولا غيرهم من المخلوقين الذين لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا ولا موتا ولا حياة ولا نشورا، بل الواجب المتعين إخلاص العبادة لمن له الكمال المطلق من جميع الوجوه، وله التدبير الكامل الذي لا يشركه ولا يعينه عليه أحد. ثم بعد ما أمر بعبادته والقيام بحقه أمر بالقيام بحقوق العباد الأقرب فالأقرب. فقال: وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا أي: أحسنوا إليهم بالقول الكريم والخطاب اللطيف والفعل الجميل بطاعة أمرهما واجتناب نهيهما والإنفاق عليهما وإكرام من له تعلق بهما وصلة الرحم التي لا رحم لك إلا بهما. وللإحسان ضدان، الإساءةُ وعدمُ الإحسان. وكلاهما منهي عنه. وَبِذِي الْقُرْبَى أيضا إحسانا، ويشمل ذلك جميع الأقارب، قربوا أو بعدوا، بأن يحسن إليهم بالقول والفعل، وأن لا يقطع برحمه بقوله أو فعله. وَالْيَتَامَى أي: الذين فقدوا آباءهم وهم صغار، فلهم حق على المسلمين، سواء كانوا أقارب أو غيرهم بكفالتهم وبرهم وجبر خواطرهم وتأديبهم، وتربيتهم أحسن تربية في مصالح دينهم ودنياهم. وَالْمَسَاكِين وهم الذين أسكنتهم الحاجة والفقر، فلم يحصلوا على كفايتهم، ولا كفاية من يمونون، فأمر الله تعالى بالإحسان إليهم، بسد خلتهم وبدفع فاقتهم، والحض على ذلك، والقيام بما يمكن منه. وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى أي: الجار القريب الذي له حقان حق الجوار وحق القرابة، فله على جاره حق وإحسان راجع إلى العرف. و كذلك الْجَارِ الْجُنُبِ أي: الذي ليس له قرابة. وكلما كان الجار أقرب بابًا كان آكد حقًّا، فينبغي للجار أن يتعاهد جاره بالهدية والصدقة والدعوة واللطافة بالأقوال والأفعال وعدم أذيته بقول أو فعل. وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ قيل: الرفيق في السفر، وقيل: الزوجة، وقيل الصاحب مطلقا، ولعله أولى، فإنه يشمل الصاحب في الحضر والسفر ويشمل الزوجة. فعلى الصاحب لصاحبه حق زائد على مجرد إسلامه، من مساعدته على أمور دينه ودنياه، والنصح له؛ والوفاء معه في اليسر والعسر، والمنشط والمكره، وأن يحب له ما يحب لنفسه، ويكره له ما يكره لنفسه، وكلما زادت الصحبة تأكد الحق وزاد. وَابْنَ السَّبِيلِ وهو: الغريب الذي احتاج في بلد الغربة أو لم يحتج، فله حق على المسلمين لشدة حاجته وكونه في غير وطنه بتبليغه إلى مقصوده أو بعض مقصوده [وبإكرامه وتأنيسه] وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ : أي: من الآدميين والبهائم بالقيام بكفايتهم وعدم تحميلهم ما يشق عليهم وإعانتهم على ما يتحملون، وتأديبهم لما فيه مصلحتهم. فمن قام بهذه المأمورات فهو الخاضع لربه، المتواضع لعباد الله، المنقاد لأمر الله وشرعه، الذي يستحق الثواب الجزيل والثناء الجميل، ومن لم يقم بذلك فإنه عبد معرض عن ربه، غير منقاد لأوامره، ولا متواضع للخلق، بل هو متكبر على عباد الله معجب بنفسه فخور بقوله، ولهذا قال: إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا أي: معجبا بنفسه متكبرًا على الخلق فَخُورًا يثني على نفسه ويمدحها على وجه الفخر والبطر على عباد الله، فهؤلاء ما بهم من الاختيال والفخر يمنعهم من القيام بالحقوق. |
الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ ۗ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا(37) التفسير المختصر: ولا يحب الله الذين يمنعون ما أوجب الله عليهم من الإنفاق مما أعطاهم من رزقه، ويأمرون بقولهم وفعلهم غيرَهم بذلك، ويخفون ما آتاهم الله من فضله من الرزق والعلم وغيره، فلا يبينون للناس الحق، بل يكتمونه، ويظهرون الباطل، وهذه الخصال من خصال الكفر، وقد هيأنا للكافرين عذابًا مخزيًا. تفسير الجلالين: «الذين» مبتدأ «يبخلون» بما يجب عليهم «ويأمرون الناس بالبخل» به «ويكتمون ما آتاهم الله من فضله» من العلم والمال وهم اليهود وخبر المبتدأ لهم وعيد شديد «وأعتدنا للكافرين» بذلك وبغيره «عذابا مهينا» ذا إهانة. تفسير السعدي: الَّذِينَ يَبْخَلُونَ أي: يمنعون ما عليهم من الحقوق الواجبة. وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ بأقوالهم وأفعالهم وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ أي: من العلم الذي يهتدي به الضالون ويسترشد به الجاهلون فيكتمونه عنهم، ويظهرون لهم من الباطل ما يحول بينهم وبين الحق. فجمعوا بين البخل بالمال والبخل بالعلم، وبين السعي في خسارة أنفسهم وخسارة غيرهم، وهذه هي صفات الكافرين، فلهذا قال تعالى: وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا أي: كما تكبروا على عباد الله ومنعوا حقوقه وتسببوا في منع غيرهم من البخل وعدم الاهتداء، أهانهم بالعذاب الأليم والخزي الدائم. فعياذًا بك اللهم من كل سوء. |
وَالَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ ۗ وَمَن يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا(38) التفسير المختصر: وهيأنا العذاب كذلك للذين ينفقون أموالهم من أجل أن يراهم الناس ويمدحوهم، وهم لا يؤمنون بالله، ولا بيوم القيامة؛ أعددنا لهم ذلك العذاب المخزي، وما أضلهم إلا متابعتهم للشيطان، ومن يكن الشيطان له صاحبًا ملازمًا فساء صاحبًا. تفسير الجلالين: «والذين» عطف على الذين قبله «ينفقون أموالهم رئاء الناس» مرائين لهم «ولا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر» كالمنافقين وأهل مكة «ومن يكن الشيطان له قرينا» صاحبا يعمل بأمره كهؤلاء «فساء» بئس «قرينا» هو. تفسير السعدي: ثم أخبر عن النفقة الصادرة عن رياء وسمعة وعدم إيمان به فقال: وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ أي: ليروهم ويمدحوهم ويعظموهم وَلَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ أي: ليس إنفاقهم صادرا عن إخلاص وإيمان بالله ورجاء ثوابه. أي: فهذا من خطوات الشيطان وأعماله التي يدعو حزبه إليها ليكونوا من أصحاب السعير. وصدرت منهم بسبب مقارنته لهم وأزهم إليها فلهذا قال: وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا أي: بئس المقارن والصاحب الذي يريد إهلاك من قارنه ويسعى فيه أشد السعي. فكما أن من بخل بما آتاه الله، وكتم ما مَنَّ به الله عليه عاص آثم مخالف لربه، فكذلك من أنفق وتعبد لغير الله فإنه آثم عاص لربه مستوجب للعقوبة، لأن الله إنما أمر بطاعته وامتثال أمره على وجه الإخلاص، كما قال تعالى: وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فهذا العمل المقبول الذي يستحق صاحبه المدح والثواب فلهذا حث تعالى عليه |
وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ ۚ وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيمًا(39) التفسير المختصر: وماذا يضر هؤلاء لو أنهم آمنوا بالله حقًّا وبيوم القيامة، وأنفقوا مما رزقهم الله في الوجوه التي يحبها ويرضاها؟! بل في ذلك الخير كله، وكان الله بهم عليمًا، لا يخفى عليه حالهم، وسيجازي كلًّا بعمله. تفسير الجلالين: «وماذا عليهم لو آمنوا بالله واليوم الآخر وأنفقوا مما رزقهم الله» أي أيّ ضرر عليهم في ذلك والاستفهام للإنكار ولو مصدرية أي لا ضرر فيه وإنما الضرر فيما هم عليه «وكان الله بهم عليما» فيجازيهم بما عملوا. تفسير السعدي: أي: أي شيء عليهم وأي حرج ومشقة تلحقهم لو حصل منهم الإيمان بالله الذي هو الإخلاص، وأنفقوا من أموالهم التي رزقهم الله وأنعم بها عليهم فجمعوا بين الإخلاص والإنفاق، ولما كان الإخلاص سرًّا بين العبد وبين ربه، لا يطلع عليه إلا الله أخبر تعالى بعلمه بجميع الأحوال فقال: وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيمًا |
إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ ۖ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا(40) التفسير المختصر: إن الله تعالى عدل لا يظلم عباده شيئًا، فلا ينقص من حسناتهم مقدار نملة صغيرة، ولا يزيد في سيئاتهم شيئًا، وإن تكن زنة الذرَّة حسنة يضاعف ثوابها فضلًا منه، ويؤت من عنده مع المضاعفة ثوابًا عظيمًا. تفسير الجلالين: «إن الله لا يظلم» أحدا «مثقال» وزن «ذرَّة» أصغر نملة بأن ينقصها من حسناته أو يزيدها في سيئاته «وإن تك» الذرة «حسنة» من مؤمن وفي قراءة بالرفع فكان تامة «يضاعفها» من عشر إلى أكثر من سبعمائة وفي قراءة يضعفها بالتشديد «ويؤت من لدنه» من عنده مع المضاعفة «أجرا عظيما» لا يقدِّره أحد. تفسير السعدي: يخبر تعالى عن كمال عدله وفضله وتنزهه عما يضاد ذلك من الظلم القليل والكثير فقال: إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ أي: ينقصها من حسنات عبده أو يزيدها في سيئاته، كما قال تعالى: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا أي: إلى عشرة أمثالها، إلى أكثر من ذلك، بحسب حالها ونفعها وحال صاحبها، إخلاصا ومحبة وكمالا. وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا أي: زيادة على ثواب العمل بنفسه من التوفيق لأعمال أخر، وإعطاء البر الكثير والخير الغزير. |
فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَىٰ هَٰؤُلَاءِ شَهِيدًا(41) التفسير المختصر: فكيف يكون الأمر يوم القيامة حين نجيء بنبي كل أمة يشهد عليها بما عملت، ونجيء بك - أيها الرسول - على أمتك شاهدًا؟! تفسير الجلالين: «فكيف» حال الكفـار «إذا جئنا من كل أمة بشهيد» يشهد عليها بعملها وهو نبيها «وجئنا بك» يا محمد «على هؤلاء شهيدا». تفسير السعدي: ثم قال تعالى: فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا أي: كيف تكون تلك الأحوال، وكيف يكون ذلك الحكم العظيم، الذي جمع أن من حكم به كاملُ العلم، كاملُ العدل، كامل الحكمة، بشهادة أزكى الخلق وهم الرسل على أممهم مع إقرار المحكوم عليه؟" فهذا -والله- الحكم الذي هو أعم الأحكام وأعدلها وأعظمها. وهناك يبقى المحكوم عليهم مقرين له لكمال الفضل والعدل، والحمد والثناء. وهناك يسعد أقوام بالفوز والفلاح والعز والنجاح. ويشقى أقوام بالخزي والفضيحة والعذاب المهين. |
يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّىٰ بِهِمُ الْأَرْضُ وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا(42) التفسير المختصر: في ذلك اليوم العظيم يود الذين كفروا بالله وعصوا رسوله لو صاروا ترابًا فكانوا سواءً هم والأرض، ولا يُخفون عن الله شيئًا مما عملوا؛ لأن الله يختم على ألسنتهم فلا تنطق، ويأذن لجوارحهم فتشهد عليهم بعملهم. تفسير الجلالين: «يومئذ» يوم المجيء «يود الذين كفروا وعصوا الرَّسول لو» أي أن «تُسَوَّى» بالبناء للمفعول والفاعل مع حذف إحدى التاءين في الأصل ومع إدغامها في السين أي تتسوى «بهم الأرض» بأن يكونوا ترابا مثلها لعظم هوله كما في آية أخرى (ويقول الكافر يا ليتنى كنت ترابا) «ولا يكتمون الله حديثا» عما عملوه وفي وقت آخر يكتمونه ويقولون (والله ربِّنا ما كنا مشركين). تفسير السعدي: يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ أي: جمعوا بين الكفر بالله وبرسوله، ومعصيةِ الرسول لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ أي: تبتلعهم ويكونون ترابا وعدما، كما قال تعالى: وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا . وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا أي: بل يقرون له بما عملوا، وتشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون. يومئذ يوفيهم الله جزاءهم الحق، ويعلمون أن الله هو الحق المبين. فأما ما ورد من أن الكفار يكتمون كفرهم وجحودهم، فإن ذلك يكون في بعض مواضع القيامة، حين يظنون أن جحودهم ينفعهم من عذاب الله، فإذا عرفوا الحقائق وشهدت عليهم جوارحهم حينئذ ينجلي الأمر، ولا يبقى للكتمان موضع، ولا نفع ولا فائدة. |
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنتُمْ سُكَارَىٰ حَتَّىٰ تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّىٰ تَغْتَسِلُوا ۚ وَإِن كُنتُم مَّرْضَىٰ أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِّنكُم مِّنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا(43) التفسير المختصر: يا أيها الذين آمنوا بالله واتبعوا رسوله، لا تصلُّوا وأنتم في حال سكر حتى تصحوا من سكركم، وتميزوا ما تقولون - وكان هذا قبل تحريم الخمر مطلقًا - ولا تصلُّوا وأنتم في حال جنابة، ولا تدخلوا المساجد في حالها إلا مُجْتازين دون بقاء فيها؛ حتى تغتسلوا، وإن أصابكم مرض لا يمكن استعمال الماء معه، أو كنتم مسافرين، أو أحدث أحدكم، أو جامعتم النساء؛ فلم تجدوا ماء - فاقصدوا ترابًا طاهرًا، فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه، إن الله كان عفوًّا عن تقصيركم، غفورًا لكم. تفسير الجلالين: «يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة» أي لا تصلوا «وأنتم سكارى» من الشراب لأن سبب نزولها صلاة جماعة في حال سكر «حتى تعلموا ما تقولون» بأن تصْحوا «ولا جُنُبا» بإيلاج أو إنزال ونصبه على الحال وهو يطلق على المفرد وغيره «إلا عابري» مجتازي «سبيل» طريق أي مسافرين «حتى تغتسلوا» فلكم أن تصلوا واستثناء المسافر لأن له حكما آخر سيأتي وقيل المراد النهي عن قربان مواضع الصلاة أي المساجد إلا عبورها من غير مكث «وإن كنتم مرضى» مرضا يضره الماء «أو على سفر» أي مسافرين وأنتم جنب أو محدثون «أو جاء أحد منكم من الغائط» هو المكان المعَدُّ لقضاء الحاجة أي أحدث «أو لامستم النساء» وفي قراءة بلا ألف وكلاهما بمعنى اللمس هو الجَسُّ باليد قاله ابن عمر وعليه الشافعى وألحق به الجس بباقي البشرة وعن ابن عباس هو الجماع «فلم تجدوا ماءً» تتطهرون به للصلاة بعد الطلب والتفتيش وهو راجع إلى ما عدا المرضى «فتيمموا» اقصدوا بعد دخول الوقت «صعيدا طيبا» ترابا طاهرا فاضربوا به ضربتين «فامسحوا بوجوهكم وأيديكم» مع المرفقين منه ومسح يتعدى بنفسه وبالحرف «إن الله كان عفوا غفورا». تفسير السعدي: ينهى تعالى عباده المؤمنين أن يقربوا الصلاة وهم سكارى، حتى يعلموا ما يقولون، وهذا شامل لقربان مواضع الصلاة، كالمسجد، فإنه لا يمكَّن السكران من دخوله. وشامل لنفس الصلاة، فإنه لا يجوز للسكران صلاة ولا عبادة، لاختلاط عقله وعدم علمه بما يقول، ولهذا حدد تعالى ذلك وغياه إلى وجود العلم بما يقول السكران. وهذه الآية الكريمة منسوخة بتحريم الخمر مطلقا، فإن الخمر -في أول الأمر- كان غير محرم، ثم إن الله تعالى عرض لعباده بتحريمه بقوله: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا ثم إنه تعالى نهاهم عن الخمر عند حضور الصلاة كما في هذه الآية، ثم إنه تعالى حرمه على الإطلاق في جميع الأوقات في قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ الآية. ومع هذا فإنه يشتد تحريمه وقت حضور الصلاة لتضمنه هذه المفسدة العظيمة، بعد حصول مقصود الصلاة الذي هو روحها ولبها وهو الخشوع وحضور القلب، فإن الخمر يسكر القلب، ويصد عن ذكر الله وعن الصلاة، ويؤخذ من المعنى منع الدخول في الصلاة في حال النعاس المفرط، الذي لا يشعر صاحبه بما يقول ويفعل، بل لعل فيه إشارة إلى أنه ينبغي لمن أراد الصلاة أن يقطع عنه كل شاغل يشغل فكره، كمدافعة الأخبثين والتوق لطعام ونحوه كما ورد في ذلك الحديث الصحيح. ثم قال: وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ أي: لا تقربوا الصلاة حالة كون أحدكم جنبا، إلا في هذه الحال وهو عابر السبيل أي: تمرون في المسجد ولا تمكثون فيه، حَتَّى تَغْتَسِلُوا أي: فإذا اغتسلتم فهو غاية المنع من قربان الصلاة للجنب، فيحل للجنب المرور في المسجد فقط. وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا فأباح التيمم للمريض مطلقًا مع وجود الماء وعدمه، والعلة المرض الذي يشق معه استعمال الماء، وكذلك السفر فإنه مظنة فقد الماء، فإذا فقده المسافر أو وجد ما يتعلق بحاجته من شرب ونحوه، جاز له التيمم. وكذلك إذا أحدث الإنسان ببول أو غائط أو ملامسة النساء، فإنه يباح له التيمم إذا لم يجد الماء، حضرًا وسفرًا كما يدل على ذلك عموم الآية. والحاصل: أن الله تعالى أباح التيمم في حالتين: حال عدم الماء، وهذا مطلقا في الحضر والسفر، وحال المشقة باستعماله بمرض ونحوه. واختلف المفسرون في معنى قوله: أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ هل المراد بذلك: الجماع فتكون الآية نصا في جواز التيمم للجنب، كما تكاثرت بذلك الأحاديث الصحيحة؟ أو المراد بذلك مجرد اللمس باليد، ويقيد ذلك بما إذا كان مظنة خروج المذي، وهو المس الذي يكون لشهوة فتكون الآية دالة على نقض الوضوء بذلك؟ واستدل الفقهاء بقوله: فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً بوجوب طلب الماء عند دخول الوقت، قالوا: لأنه لا يقال: "لم يجد" لمن لم يطلب، بل لا يكون ذلك إلا بعد الطلب، واستدل بذلك أيضا على أن الماء المتغير بشيء من الطاهرات يجوز بل يتعين التطهر به لدخوله في قوله: فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً وهذا ماء. ونوزع في ذلك أنه ماء غير مطلق وفي ذلك نظر. وفي هذه الآية الكريمة مشروعية هذا الحكم العظيم الذي امتن به الله على هذه الأمة، وهو مشروعية التيمم، وقد أجمع على ذلك العلماء ولله الحمد، وأن التيمم يكون بالصعيد الطيب، وهو كل ما تصاعد على وجه الأرض سواء كان له غبار أم لا، ويحتمل أن يختص ذلك بذي الغبار لأن الله قال: فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ وما لا غبار له لا يمسح به. وقوله: فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ هذا محل المسح في التيمم: الوجه جميعه واليدان إلى الكوعين، كما دلت على ذلك الأحاديث الصحيحة، ويستحب أن يكون ذلك بضربة واحدة، كما دل على ذلك حديث عمار، وفيه أن تيمم الجنب كتيمم غيره، بالوجه واليدين. فائدة اعلم أن قواعد الطب تدور على ثلاث قواعد: حفظ الصحة عن المؤذيات، والاستفراغ منها، والحمية عنها. وقد نبه تعالى عليها في كتابه العزيز. أما حفظ الصحة والحمية عن المؤذي، فقد أمر بالأكل والشرب وعدم الإسراف في ذلك، وأباح للمسافر والمريض الفطر حفظا لصتحهما، باستعمال ما يصلح البدن على وجه العدل، وحماية للمريض عما يضره. وأما استفراغ المؤذي فقد أباح تعالى للمحْرِم المتأذي برأسه أن يحلقه لإزالة الأبخرة المحتقنة فيه، ففيه تنبيه على استفراغ ما هو أولى منها من البول والغائط والقيء والمني والدم، وغير ذلك، نبه على ذلك ابن القيم رحمه الله تعالى. وفي الآية وجوب تعميم مسح الوجه واليدين، وأنه يجوز التيمم ولو لم يضق الوقت، وأنه لا يخاطب بطلب الماء إلا بعد وجود سبب الوجوب والله أعلم. ثم ختم الآية بقوله: إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا أي: كثير العفو والمغفرة لعباده المؤمنين، بتيسير ما أمرهم به، وتسهيله غاية التسهيل، بحيث لا يشق على العبد امتثاله، فيحرج بذلك. ومن عفوه ومغفرته أن رحم هذه الأمة بشرع طهارة التراب بدل الماء، عند تعذر استعماله. ومن عفوه ومغفرته أن فتح للمذنبين باب التوبة والإنابة ودعاهم إليه ووعدهم بمغفرة ذنوبهم. ومن عفوه ومغفرته أن المؤمن لو أتاه بقراب الأرض خطايا ثم لقيه لا يشرك به شيئا، لأتاه بقرابها مغفرة. |
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلَالَةَ وَيُرِيدُونَ أَن تَضِلُّوا السَّبِيلَ(44) التفسير المختصر: ألم تعلم - أيها الرسول - أمر اليهود الذين أعطاهم الله حظًّا من العلم بالتوراة يستبدلون الضلال بالهدى، وهم حريصون على إضلالكم - أيها المؤمنون - عن الصراط المستقيم الذي جاء به الرسول؛ لتسلكوا طريقهم المعْوجّ؟! تفسير الجلالين: «ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا» حظا «من الكتاب» وهم اليهود «يشترون الضلالة» بالهدى «ويريدون أن تضلوا السبيل» تخطئوا الطريق الحق لتكونوا مثلهم. تفسير السعدي: هذا ذم لمن أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ وفي ضمنه تحذير عباده عن الاغترار بهم، والوقوع في أشراكهم، فأخبر أنهم في أنفسهم يَشْتَرُونَ الضَّلَالَةَ أي: يحبونها محبة عظيمة ويؤثرونها إيثار من يبذل المال الكثير في طلب ما يحبه. فيؤثرون الضلال على الهدى، والكفر على الإيمان، والشقاء على السعادة، ومع هذا يُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ . فهم حريصون على إضلالكم غاية الحرص، باذلون جهدهم في ذلك .ولكن لما كان الله ولي عباده المؤمنين وناصرهم، بيَّن لهم ما اشتملوا عليه من الضلال والإضلال، ولهذا قال: وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا أي: يتولى أحوال عباده ويلطف بهم في جميع أمورهم، وييسر لهم ما به سعادتهم وفلاحهم. وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا ينصرهم على أعدائهم ويبين لهم ما يحذرون منهم ويعينهم عليهم. فولايته تعالى فيها حصول الخير، ونصره فيه زوال الشر. |
وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ ۚ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَىٰ بِاللَّهِ نَصِيرًا(45) التفسير المختصر: والله عز وجل أعلم منكم بأعدائكم - أيها المؤمنون - فأخبركم بهم وبيَّن لكم عداوتهم، وكفى بالله وليًّا يحفظكم من بأسهم، وكفى بالله نصيرًا يمنعكم من كيدهم وأذاهم وينصركم عليهم. تفسير الجلالين: «والله أعلم بأعدائكم» منكم فيخبركم بهم لتجتنبوهم «وكفى بالله وليا» حافظا لكم منهم «وكفى بالله نصيرا» مانعا لكم من كيدهم. تفسير السعدي: .ولكن لما كان الله ولي عباده المؤمنين وناصرهم، بيَّن لهم ما اشتملوا عليه من الضلال والإضلال، ولهذا قال: وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا أي: يتولى أحوال عباده ويلطف بهم في جميع أمورهم، وييسر لهم ما به سعادتهم وفلاحهم. وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا ينصرهم على أعدائهم ويبين لهم ما يحذرون منهم ويعينهم عليهم. فولايته تعالى فيها حصول الخير، ونصره فيه زوال الشر. |
مِّنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ ۚ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَٰكِن لَّعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا(46) التفسير المختصر: من اليهود قوم سوء يغيرون الكلام الذي أنزله الله، فيُؤوِّلونه على غير ما أنزل الله، ويقولون للرسول صلى الله عليه وسلم حين يأمرهم بأمر: سمعنا قولك، وعصينا أمرك، ويقولون مستهزئين: اسمع ما نقول لا سَمِعْتَ؛ ويوهمون بقولهم: «راعنا» أنهم يريدون: راعنا سمعك، وإنما يريدون الرعونة؛ يلوون بها ألسنتهم، يريدون الدعاء عليه صلى الله عليه وسلم، ويقصدون القدح في الدين، ولو أنهم قالوا: سمعنا قولك، وأطعنا أمرك، بدلًا من قولهم: سمعنا قولك، وعصينا أمرك، وقالوا: اسمع، بدل قولهم: اسمع لا سمعتَ، وقالوا: انتظرنا نفهم عنك ما تقول، بدل قولهم: راعنا؛ لكان ذلك خيرًا لهم مما قالوه أولًا، وأعدل منه؛ لما فيه من حسن الأدب اللائق بجناب النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن لعنهم الله، فطردهم من رحمته بسبب كفرهم، فلا يؤمنون إيمانًا ينفعهم. تفسير الجلالين: «من الذين هادوا» قوم «يحِّرفون» يغيرون «الكلم» الذي أنزل الله في التوراة من نعت محمد صلى الله عليه وسلم «عن مواضعه» التي وضع عليها «ويقولون» للنبي صلى الله عليه وسلم إذا أمرهم بشيء «سمعنا» قولك «وعصينا» أمرك «واسمع غير مُسمع» حال بمعنى الدعاء أي لا سمعت «و» يقولون له «راعنا» وقد نهى عن خطابه وهي كلمة سب بلغتهم «ليٌا» تحريفا «بألسنتهم وطعنا» قدحا «في الدين» الإسلام «ولو أنهم قالوا سمعنا وأطعنا» بذل وعصينا «واسمع» فقط «وانظرنا» انظر إلينا بدل راعنا «لكان خيرا لهم» مما قالوه «وأقوم» أعدل منه «ولكن لعنهم الله» أبعدهم عن رحمته «بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلا» منهم كعبد الله بن سلام وأصحابه. تفسير السعدي: ثم بين كيفية ضلالهم وعنادهم وإيثارهم الباطل على الحق فقال: مِنَ الَّذِينَ هَادُوا أي: اليهود وهم علماء الضلال منهم. يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ إما بتغيير اللفظ أو المعنى، أو هما جميعا. فمن تحريفهم تنزيل الصفات التي ذكرت في كتبهم التي لا تنطبق ولا تصدق إلا على محمد صلى الله عليه وسلم على أنه غير مراد بها، ولا مقصود بها بل أريد بها غيره، وكتمانهم ذلك. فهذا حالهم في العلم أشر حال، قلبوا فيه الحقائق، ونزلوا الحق على الباطل، وجحدوا لذلك الحق، وأما حالهم في العمل والانقياد فإنهم يَقُولون سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا أي: سمعنا قولك وعصينا أمرك، وهذا غاية الكفر والعناد والشرود عن الانقياد، وكذلك يخاطبون الرسول صلى الله عليه وسلم بأقبح خطاب وأبعده عن الأدب فيقولون: اسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ قصدهم: اسمع منا غير مسمع ما تحب، بل مسمع ما تكره، وَرَاعِنَا قصدهم بذلك الرعونة، بالعيب القبيح، ويظنون أن اللفظ -لما كان محتملا لغير ما أرادوا من الأمور- أنه يروج على الله وعلى رسوله، فتوصلوا بذلك اللفظِ الذي يلوون به ألسنتهم إلى الطعن في الدين والعيب للرسول، ويصرحون بذلك فيما بينهم، فلهذا قال: لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ ثم أرشدهم إلى ما هو خير لهم من ذلك فقال: وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ وذلك لما تضمنه هذا الكلام من حسن الخطاب والأدب اللائق في مخاطبة الرسول، والدخول تحت طاعة الله والانقياد لأمره، وحسن التلطف في طلبهم العلم بسماع سؤالهم، والاعتناء بأمرهم، فهذا هو الذي ينبغي لهم سلوكه. ولكن لما كانت طبائعهم غير زكية، أعرضوا عن ذلك، وطردهم الله بكفرهم وعنادهم، ولهذا قال: وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا |
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِّمَا مَعَكُم مِّن قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَىٰ أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ ۚ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا(47) التفسير المختصر: يا أيها الذين أوتوا الكتاب من اليهود والنصارى، آمنوا بما أنزلنا على محمد صلى الله عليه وسلم، الذي جاء مصدقًا لما معكم من التوراة والإنجيل، من قبل أن نمحو ما في الوجوه من الحواس، ونجعلها ناحية أدبارهم، أو نطردهم من رحمة الله كما طردنا منها أصحاب السبت الذين اعتدوا بالصيد فيه بعد نهيهم عنه، فمسخهم الله قردة، وكان أمره تعالى وقدره واقعًا لا محالة. تفسير الجلالين: «يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزّلنا» من القرآن «مصدّقا لما معكم» من التوراة «من قبل أن نطمس وجوها» نمحو ما فيها من العين والأنف والحاجب «فنردها على أدبارها» فنجعلها كالأقفاء لوحا واحدا «أو نلعنهم» نمسخهم قردة «كما لعنَّا» مسخنا «أصحاب السبت» منهم «وكان أمر الله» قضاؤه «مفعولا» ولما نزلت أسلم عبد الله بن سلام فقيل كان وعيدا بشرط فلما أسلم به ببعضهم رفع وقيل يكون طمس ومسح قبل قيام الساعة. تفسير السعدي: يأمر تعالى أهل الكتاب من اليهود والنصارى أن يؤمنوا بالرسول محمد صلى الله عليه وسلم وما أنزل الله عليه من القرآن العظيم، المهيمن على غيره من الكتب السابقة التي قد صدقها، فإنها أخبرت به فلما وقع المخبر به كان تصديقا لذلك الخبر. وأيضا فإنهم إن لم يؤمنوا بهذا القرآن فإنهم لم يؤمنوا بما في أيديهم من الكتب، لأن كتب الله يصدق بعضها بعضا، ويوافق بعضها بعضًا. فدعوى الإيمان ببعضها دون بعض دعوى باطلة لا يمكن صدقها. وفي قوله: آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ حث لهم وأنهم ينبغي أن يكونوا قبل غيرهم مبادرين إليه بسبب ما أنعم الله عليهم به من العلم، والكتاب الذي يوجب أن يكون ما عليهم أعظم من غيرهم، ولهذا توعدهم على عدم الإيمان فقال: مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا وهذا جزاء من جنس ما عملوا، كما تركوا الحق، وآثروا الباطل وقلبوا الحقائق، فجعلوا الباطل حقا والحق باطلا، جوزوا من جنس ذلك بطمس وجوههم كما طمسوا الحق، وردها على أدبارها، بأن تجعل في أقفائهم وهذا أشنع ما يكون أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ بأن يطردهم من رحمته، ويعاقبهم بجعلهم قردة، كما فعل بإخوانهم الذين اعتدوا في السبت فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا كقوله: إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ |
إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَاءُ ۚ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَىٰ إِثْمًا عَظِيمًا(48) التفسير المختصر: إن الله لا يغفر أن يُشرك به شيء من مخلوقاته، ويتجاوز عما دون الشرك والكفر من المعاصي لمن يشاء بفضله، أو يعذب بها من شاء منهم بقدر ذنوبهم بعدله، ومن يُشرك مع الله غيره فقد اختلق إثمًا عظيمًا لا يُغفر لمن مات عليه. تفسير الجلالين: «إن الله لا يغفر أن يُشرك» أي الإشراك «به ويغفر ما دون» سوى «ذلك» من الذنوب «لمن يشاء» المغفرة له بأن يدخله الجنة بلا عذاب ومن شاء عذّبه من المؤمنين بذنوبه ثم يدخله الجنة «ومن يشرك بالله فقد افترى إثما» ذنبا «عظيما» كبيرا. تفسير السعدي: يخبر تعالى: أنه لا يغفر لمن أشرك به أحدا من المخلوقين، ويغفر ما دون الشرك من الذنوب صغائرها وكبائرها، وذلك عند مشيئته مغفرة ذلك، إذا اقتضت حكمتُه مغفرتَه. فالذنوب التي دون الشرك قد جعل الله لمغفرتها أسبابا كثيرة، كالحسنات الماحية والمصائب المكفرة في الدنيا، والبرزخ ويوم القيامة، وكدعاء المؤمنين بعضهم لبعض، وبشفاعة الشافعين. ومن فوق ذلك كله رحمته التي أحق بها أهل الإيمان والتوحيد. وهذا بخلاف الشرك فإن المشرك قد سد على نفسه أبواب المغفرة، وأغلق دونه أبواب الرحمة، فلا تنفعه الطاعات من دون التوحيد، ولا تفيده المصائب شيئا، وما لهم يوم القيامة مِنْ شَافِعِينَ وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ ولهذا قال تعالى: وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا أي: افترى جرما كبيرا، وأي: ظلم أعظم ممن سوى المخلوق -من تراب، الناقص من جميع الوجوه، الفقير بذاته من كل وجه، الذي لا يملك لنفسه- فضلا عمن عبده -نفعًا ولا ضرًّا ولا موتًا ولا حياة ولا نشورًا- بالخالق لكل شيء، الكامل من جميع الوجوه، الغني بذاته عن جميع مخلوقاته، الذي بيده النفع والضر والعطاء والمنع، الذي ما من نعمة بالمخلوقين إلا فمنه تعالى، فهل أعظم من هذا الظلم شيء؟ ولهذا حتم على صاحبه بالخلود بالعذاب وحرمان الثواب إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وهذه الآية الكريمة في حق غير التائب، وأما التائب، فإنه يغفر له الشرك فما دونه كما قال تعالى: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا أي: لمن تاب إليه وأناب. |
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُم ۚ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَن يَشَاءُ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا(49) التفسير المختصر: ألم تعلم - أيها الرسول - أمر أولئك الذين يثنون ثناء تزكية على أنفسهم وأعمالهم؟ بل الله وحده هو الذي يثني على من شاء من عباده ويزكيهم؛ لأنه عالم بخفايا القلوب، ولن ينقصوا شيئًا من ثواب أعمالهم ولو كان قدر الخيط الذي في نواة التمر. تفسير الجلالين: «ألم تر إلى الذين يزكُون أنفسهم» وهم اليهود حيث قالوا نحن أبناء الله وأحباؤه أي ليس الأمر بتزكيتهم أنفسهم «بل الله يزكّي» يطهر «من يشاء» بالإيمان «ولا يُظلمون» ينقصون من أعمالهم «فتيلا» قدر قشرة النواة. تفسير السعدي: هذا تعجيب من الله لعباده، وتوبيخ للذين يزكون أنفسهم من اليهود والنصارى، ومن نحا نحوهم من كل من زكى نفسه بأمر ليس فيه. وذلك أن اليهود والنصارى يقولون: نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ ويقولون: لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى وهذا مجرد دعوى لا برهان عليها، وإنما البرهان ما أخبر به في القرآن في قوله: بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ فهؤلاء هم الذين زكاهم الله ولهذا قال هنا: بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ أي: بالإيمان والعمل الصالح بالتخلي عن الأخلاق الرذيلة، والتحلي بالصفات الجميلة. وأما هؤلاء فهم -وإن زكوا أنفسهم بزعمهم أنهم على شيء، وأن الثواب لهم وحدهم- فإنهم كذبة في ذلك، ليس لهم من خصال الزاكين نصيب، بسبب ظلمهم وكفرهم لا بظلم من الله لهم، ولهذا قال: وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا وهذا لتحقيق العموم أي: لا يظلمون شيئا ولا مقدار الفتيل الذي في شق النواة أو الذي يفتل من وسخ اليد وغيرها. |
انظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ ۖ وَكَفَىٰ بِهِ إِثْمًا مُّبِينًا(50) التفسير المختصر: انظر -أيها الرسول- كيف يختلقون على الله الكذب بثنائهم على أنفسهم! وكفى بذلك ذنبًا مبينًا عن ضلالهم. تفسير الجلالين: «اُنظر» متعجبا «كيف يفترون على الله الكذب» بذلك «وكفى به إثما مبينا» بيِّنا. تفسير السعدي: انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ أي: بتزكيتهم أنفسهم، لأن هذا من أعظم الافتراء على الله. لأن مضمون تزكيتهم لأنفسهم الإخبار بأن الله جعل ما هم عليه حقا وما عليه المؤمنون المسلمون باطلا. وهذا أعظم الكذب وقلب الحقائق بجعل الحق باطلا، والباطلِ حقًّا. ولهذا قال: وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُبِينًا أي: ظاهرا بينا موجبا للعقوبة البليغة والعذاب الأليم. |
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَٰؤُلَاءِ أَهْدَىٰ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا(51) التفسير المختصر: ألم تعلم - أيها الرسول - وتتعجب من حال اليهود الذين آتاهم الله حظًّا من العلم، يؤمنون بما اتخذوه من معبودات من دون الله، ويقولون - مصانعةً للمشركين -: إنهم أهدى طريقًا من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم؟! تفسير الجلالين: ونزل في كعب بن الأشرف ونحوه من علماء اليهود لما قدموا مكة وشاهدوا قتلى بدر وحرضوا المشركين على الأخذ بثأرهم ومحاربة النبي صلى الله عليه وسلم «ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت» صنمان لقريش «ويقولون للذين كفروا» أبي سفيان وأصاحبه حين قالوا لهم: نحن أهدى سبيلا ونحن ولاة البيت نسقي الحاج ونقري الضيف ونفك العاني ونفعل... أم محمد وقد خالف دين آبائه وقطع الرحم وفارق الحرم «هؤلاء» أي أنتم «أهدى من الذين آمنوا سبيلا» أقوم طريقا. تفسير السعدي: وهذا من قبائح اليهود وحسدهم للنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، أن أخلاقهم الرذيلة وطبعهم الخبيث، حملهم على ترك الإيمان بالله ورسوله، والتعوض عنه بالإيمان بالجبت والطاغوت، وهو الإيمان بكل عبادة لغير الله، أو حكم بغير شرع الله. فدخل في ذلك السحر والكهانة، وعباده غير الله، وطاعة الشيطان، كل هذا من الجبت والطاغوت، وكذلك حَمَلهم الكفر والحسد على أن فضلوا طريقة الكافرين بالله -عبدة الأصنام- على طريق المؤمنين فقال: وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا أي: لأجلهم تملقا لهم ومداهنة، وبغضا للإيمان: هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا أي: طريقا. فما أسمجهم وأشد عنادهم وأقل عقولهم" كيف سلكوا هذا المسلك الوخيم والوادي الذميم؟" هل ظنوا أن هذا يروج على أحد من العقلاء، أو يدخل عقلَ أحد من الجهلاء، فهل يُفَضَّل دين قام على عبادة الأصنام والأوثان، واستقام على تحريم الطيبات، وإباحة الخبائث، وإحلال كثير من المحرمات، وإقامة الظلم بين الخلق، وتسوية الخالق بالمخلوقين، والكفر بالله ورسله وكتبه، على دين قام على عبادة الرحمن، والإخلاص لله في السر والإعلان، والكفر بما يعبد من دونه من الأوثان والأنداد والكاذبين، وعلى صلة الأرحام والإحسان إلى جميع الخلق، حتى البهائم، وإقامة العدل والقسط بين الناس، وتحريم كل خبيث وظلم، والصدق في جميع الأقوال والأعمال، فهل هذا إلا من الهذيان، وصاحب هذا القول إما من أجهل الناس وأضعفهم عقلا، وإما من أعظمهم عنادا وتمردا ومراغمة للحق، وهذا هو الواقع |
أُولَٰئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ ۖ وَمَن يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا(52) التفسير المختصر: أولئك الذين يعتقدون هذا الاعتقاد الفاسد هم الذين طردهم الله من رحمته، ومن يطرده الله فلن تجد له نصيرًا يتولاه. تفسير الجلالين: «أولئك الذين لعنهم الله ومن يلعنـ» ـه «الله فلن تجد له نصيرا» مانعا من عذابه. تفسير السعدي: وهذا من قبائح اليهود وحسدهم للنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، أن أخلاقهم الرذيلة وطبعهم الخبيث، حملهم على ترك الإيمان بالله ورسوله، والتعوض عنه بالإيمان بالجبت والطاغوت، وهو الإيمان بكل عبادة لغير الله، أو حكم بغير شرع الله. فدخل في ذلك السحر والكهانة، وعباده غير الله، وطاعة الشيطان، كل هذا من الجبت والطاغوت، وكذلك حَمَلهم الكفر والحسد على أن فضلوا طريقة الكافرين بالله -عبدة الأصنام- على طريق المؤمنين فقال: وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا أي: لأجلهم تملقا لهم ومداهنة، وبغضا للإيمان: هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا أي: طريقا. فما أسمجهم وأشد عنادهم وأقل عقولهم" كيف سلكوا هذا المسلك الوخيم والوادي الذميم؟" هل ظنوا أن هذا يروج على أحد من العقلاء، أو يدخل عقلَ أحد من الجهلاء، فهل يُفَضَّل دين قام على عبادة الأصنام والأوثان، واستقام على تحريم الطيبات، وإباحة الخبائث، وإحلال كثير من المحرمات، وإقامة الظلم بين الخلق، وتسوية الخالق بالمخلوقين، والكفر بالله ورسله وكتبه، على دين قام على عبادة الرحمن، والإخلاص لله في السر والإعلان، والكفر بما يعبد من دونه من الأوثان والأنداد والكاذبين، وعلى صلة الأرحام والإحسان إلى جميع الخلق، حتى البهائم، وإقامة العدل والقسط بين الناس، وتحريم كل خبيث وظلم، والصدق في جميع الأقوال والأعمال، فهل هذا إلا من الهذيان، وصاحب هذا القول إما من أجهل الناس وأضعفهم عقلا، وإما من أعظمهم عنادا وتمردا ومراغمة للحق، وهذا هو الواقع |
أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لَّا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا(53) التفسير المختصر: ليس لهم نصيبٌ من الملك، ولو كان لهم هذا لَمَا أعطوا أحدًا منه شيئًا، ولو كان قدر النقطة التي في ظهر نواة التمر. تفسير الجلالين: «أم» بل «لهم نصيب من الملك» أي ليس لهم شيء منه ولو كان «فإذا لا يؤتون الناس نقيرا» أي شيئا تافها قدر النقرة في ظهر النواة لفرط بخلهم. تفسير السعدي: أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ أي: فيفضِّلون من شاءوا على من شاءوا بمجرد أهوائهم، فيكونون شركاء لله في تدبير المملكة، فلو كانوا كذلك لشحوا وبخلوا أشد البخل، ولهذا قال: فَإِذًا أي: لو كان لهم نصيب من الملك لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا أي: شيئًا ولا قليلا. وهذا وصف لهم بشدة البخل على تقدير وجود ملكهم المشارك لملك الله. وأخرج هذا مخرج الاستفهام المتقرر إنكاره عند كل أحد. |
أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَىٰ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ ۖ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مُّلْكًا عَظِيمًا(54) التفسير المختصر: بل يحسدون محمدًا صلى الله عليه وسلم وأصحابه على ما آتاهم الله من النبوة والإيمان والتمكين في الأرض. فَلِمَ يحسدونهم وقد سبق أن آتينا ذرية إبراهيم الكتاب المنزل، وما أوحيناه إليهم سوى الكتاب، وآتيناهم ملكًا واسعًا على الناس؟! تفسير الجلالين: «أم» بل «يحسدون الناس» أي النبي صلى الله عليه وسلم «على ما آتاهم الله من فضله» من النبوة وكثرة النساء، أي يتمنون زواله عنه ويقولون لو كان نبيا لاشتغل عن النساء «فقد آتينا آل إبراهيم» جده كموسى وداود وسليمان «الكتاب والحكمة» والنبوة «وآتيناهم ملكا عظيما» فكان لداود تسع وتسعون امرأة ولسليمان ألف ما بين حُرَّةِ وسرية. تفسير السعدي: أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ أي: هل الحامل لهم على قولهم كونهم شركاءَ لله فيفضلون من شاءوا؟ أم الحامل لهم على ذلك الحسدُ للرسول وللمؤمنين على ما آتاهم الله من فضله؟ وذلك ليس ببدع ولا غريب على فضل الله. فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا وذلك ما أنعم الله به على إبراهيم وذريته من النبوة والكتاب والملك الذي أعطاه من أعطاه من أنبيائه ك "داود" و "سليمان" . فإنعامه لم يزل مستمرًا على عباده المؤمنين. فكيف ينكرون إنعامه بالنبوة والنصر والملك لمحمد صلى الله عليه وسلم أفضل الخلق وأجلهم وأعظمهم معرفة بالله وأخشاهم له؟" |
فَمِنْهُم مَّنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُم مَّن صَدَّ عَنْهُ ۚ وَكَفَىٰ بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا(55) التفسير المختصر: من أهل الكتاب من آمن بما أنزل الله على إبراهيم عليه السلام وعلى أنبيائه من ذريته، ومنهم من أعرض عن الإيمان به، وهذا موقفهم مما أُنزِل على النبي محمد صلى الله عليه وسلم، والنار هي العذاب المكافئ لمن كفر منهم. تفسير الجلالين: «فمنهم من آمن به» بمحمد صلى الله عليه وسلم «ومنهم من صدَّ» أعرض «عنه» فلم يؤمن «وكفي بجهنم سعيرا» عذابا لمن لا يؤمن. تفسير السعدي: فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ أي: بمحمد صلى الله عليه وسلم فنال بذلك السعادة الدنيوية والفلاح الأخروي. وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ عنادًا وبغيًا وحسدًا فحصل لهم من شقاء الدنيا ومصائبها ما هو بعض آثار معاصيهم وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا تسعر على من كفر بالله، وجحد نبوة أنبيائه من اليهود والنصارى وغيرهم من أصناف الكفرة. |
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُم بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا(56) التفسير المختصر: إن الذين كفروا بآياتنا سوف ندخلهم يوم القيامة نارًا تحيط بهم، كلما أحرقت جلودهم بدلناهم جلودًا أخرى غيرها؛ ليستمر عليهم العذاب، إن الله كان عزيزًا لا يغالبه شيء، حكيمًا فيما يدبره ويقضي به. تفسير الجلالين: «إن الذين كفروا بآياتنا سوف نصليهم» ندخلهم «نارا» يحترقون فيها «كلما نضجت» احترقت «جلودهم بدَّلناهم جلودا غيرها» بأن تعاد إلى حالها الأول غير محترقة «ليذوقوا العذاب» ليقاسوا شدته «إن الله كان عزيزا» لا يعجزه شيء «حكيما» في خلقه. تفسير السعدي: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا أي: عظيمة الوقود شديدة الحرارة كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ أي: احترقت بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ أي: ليبلغ العذاب منهم كل مبلغ. وكما تكرر منهم الكفر والعناد وصار وصفا لهم وسجية؛ كرر عليهم العذاب جزاء وِفاقا، ولهذا قال: إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا أي: له العزة العظيمة والحكمة في خلقه وأمره، وثوابه وعقابه. |
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ۖ لَّهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ ۖ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا(57) التفسير المختصر: والذين آمنوا بالله واتبعوا رسله، وعملوا الطاعات سندخلهم يوم القيامة جنات تجري من تحت قصورها الأنهار، ماكثين فيها أبدًا، لهم في هذه الجنات زوجات مطهرات من كل قذر، وسندخلهم ظلًّا ممتدًّا كثيفًا لا حر فيه ولا برد. تفسير الجلالين: «والذين آمنوا وعملوا الصالحات سندخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا لهم فيها أزواج مطهرة» من الحيض وكل قذر «وندخلهم ظلا ظليلا» دائما لا تنسخه شمس وهو ظل الجنة, تفسير السعدي: وَالَّذِينَ آمَنُوا أي: بالله وما أوجب الإيمانَ به وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ من الواجبات والمستحبات سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ أي: من الأخلاق الرذيلة، والخلْق الذميم، ومما يكون من نساء الدنيا من كل دنس وعيب وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا |
۞ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَىٰ أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ ۚ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا(58) التفسير المختصر: إن الله يأمركم أن توصلوا كل ما ائتمنتم عليه إلى أصحابه، ويأمركم إذا قضيتم بين الناس أن تقسطوا ولا تميلوا وتجوروا في الحكم، إن الله نِعْم ما يُذَكِّرُكم به ويرشدكم إليه في كل أحوالكم، إن الله كان سميعًا لأقوالكم، بصيرًا بأفعالكم. تفسير الجلالين: «إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات» أي ما اؤتمن عليه من الحقوق «إلى أهلها» نزلت لما أخذ عليّ رضي الله عنه مفتاح الكعبة من عثمان بن طلحة الحجبي سادنها قسرا لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم مكة عام الفتح ومنعه وقال لو علمت أنه رسول الله لم أمنعه فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم برده إليه وقال هاك خالدة تالدة فعجب من ذلك فقرأ له عليُّ الآية، فأسلم وأعطاه عند موته لأخيه شيبة فبقي في ولده والآيةُ وإن وردت على سبب خاص فعمومها معتبر بقرينة الجمع «وإذا حكمتم بين الناس» يأمركم «أن تحكموا بالعدل إن الله نعمَّا» فيه إدغام ميم نعم في ما النكرة الموصولة أي نعم شيئا «يعظكم به» تأدية الأمانة والحكم بالعدل «إن الله كان سميعا» لما يقال «بصيرا» بما يفعل. تفسير السعدي: الأمانات كل ما ائتمن عليه الإنسان وأمر بالقيام به. فأمر الله عباده بأدائها أي: كاملة موفرة، لا منقوصة ولا مبخوسة، ولا ممطولا بها، ويدخل في ذلك أمانات الولايات والأموال والأسرار؛ والمأمورات التي لا يطلع عليها إلا الله. وقد ذكر الفقهاء على أن من اؤتمن أمانة وجب عليه حفظها في حرز مثلها. قالوا: لأنه لا يمكن أداؤها إلا بحفظها؛ فوجب ذلك. وفي قوله: إِلَى أَهْلِهَا دلالة على أنها لا تدفع وتؤدى لغير المؤتمِن، ووكيلُه بمنزلته؛ فلو دفعها لغير ربها لم يكن مؤديا لها. وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ وهذا يشمل الحكم بينهم في الدماء والأموال والأعراض، القليل من ذلك والكثير، على القريب والبعيد، والبر والفاجر، والولي والعدو. والمراد بالعدل الذي أمر الله بالحكم به هو ما شرعه الله على لسان رسوله من الحدود والأحكام، وهذا يستلزم معرفة العدل ليحكم به. ولما كانت هذه أوامر حسنة عادلة قال: إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا وهذا مدح من الله لأوامره ونواهيه، لاشتمالها على مصالح الدارين ودفع مضارهما، لأن شارعها السميع البصير الذي لا تخفى عليه خافية، ويعلم بمصالح العباد ما لا يعلمون. |
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ ۖ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ۚ ذَٰلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا(59) التفسير المختصر: يا أيها الذين آمنوا بالله واتبعوا رسوله، أطيعوا الله وأطيعوا رسوله، بامتثال ما أمر واجتناب ما نهى، وأطيعوا ولاة أموركم ما لم يأمروا بمعصية، فإن اختلفتم في شيء فارجعوا فيه إلى كتاب الله وسُنَّة نبيه صلى الله عليه وسلم، إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر، ذلك الرجوع إلى الكتاب والسُّنَّة خير من التمادي في الخلاف والقول بالرأي، وأحسن عاقبة لكم. تفسير الجلالين: «يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي» وأصحاب «الأمر» أي الولاة «منكم» إذا أمروكم بطاعة الله ورسوله «فإن تنازعتم» اختلفتم «في شيء فردوه إلى الله» أي إلى كتابه «والرسول» مدة حياته وبعده إلى سنته أي اكشفوا عليه منهما «إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك» أي الرد إليهما «خير» لكم من التنازع والقول بالرأي «وأحسن تأويلاً» مآلاً. تفسير السعدي: ثم أمر بطاعته وطاعة رسوله وذلك بامتثال أمرهما، الواجب والمستحب، واجتناب نهيهما. وأمر بطاعة أولي الأمر وهم: الولاة على الناس، من الأمراء والحكام والمفتين، فإنه لا يستقيم للناس أمر دينهم ودنياهم إلا بطاعتهم والانقياد لهم، طاعة لله ورغبة فيما عنده، ولكن بشرط ألا يأمروا بمعصية الله، فإن أمروا بذلك فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق. ولعل هذا هو السر في حذف الفعل عند الأمر بطاعتهم وذكره مع طاعة الرسول، فإن الرسول لا يأمر إلا بطاعة الله، ومن يطعه فقد أطاع الله، وأما أولو الأمر فشرط الأمر بطاعتهم أن لا يكون معصية. ثم أمر برد كل ما تنازع الناس فيه من أصول الدين وفروعه إلى الله وإلى الرسول أي: إلى كتاب الله وسنة رسوله؛ فإن فيهما الفصل في جميع المسائل الخلافية، إما بصريحهما أو عمومهما؛ أو إيماء، أو تنبيه، أو مفهوم، أو عموم معنى يقاس عليه ما أشبهه، لأن كتاب الله وسنة رسوله عليهما بناء الدين، ولا يستقيم الإيمان إلا بهما. فالرد إليهما شرط في الإيمان فلهذا قال: إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فدل ذلك على أن من لم يرد إليهما مسائل النزاع فليس بمؤمن حقيقة، بل مؤمن بالطاغوت، كما ذكر في الآية بعدها ذَلِكَ أي: الرد إلى الله ورسوله خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا فإن حكم الله ورسوله أحسن الأحكام وأعدلها وأصلحها للناس في أمر دينهم ودنياهم وعاقبتهم. |
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَن يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا(60) التفسير المختصر: ألم ترَ - أيها الرسول - تناقض المنافقين من اليهود الذين يَدَّعون كذبًا أنهم آمنوا بما أُنزِل عليك وما أُنزِل على الرسل من قبلك، يريدون أن يتحاكموا في نزاعاتهم إلى غير شرع الله مما وضعه البشر، وقد أمروا أن يكفروا بذلك. ويريد الشيطان أن يبعدهم عن الحق إبعادًا شديدًا لا يهتدون معه. تفسير الجلالين: ونزل لما اختصم يهودي ومنافق فدعا المنافق إلى كعب بن الأشرف ليحكم بينهما ودعا اليهودي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأتياه فقضى لليهودي فلم يرض المنافق وأتيا عمر فذكر اليهودي ذلك فقال للمنافق أكذلك فقال نعم فقتله «ألم ترَ إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أُنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت» الكثير الطغيان وهو كعب بن الأشرف «وقد أمروا أن يكفروا به» ولا يوالوه «ويريد الشيطان أن يضلَّهم ضلالا بعيدا» عن الحق. تفسير السعدي: يعجب تعالى عباده من حالة المنافقين. الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ مؤمنون بما جاء به الرسول وبما قبله، ومع هذا يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وهو كل من حكم بغير شرع الله فهو طاغوت. والحال أنهم قد أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ فكيف يجتمع هذا والإيمان؟ فإن الإيمان يقتضي الانقياد لشرع الله وتحكيمه في كل أمر من الأمور، فمَنْ زعم أنه مؤمن واختار حكم الطاغوت على حكم الله، فهو كاذب في ذلك. وهذا من إضلال الشيطان إياهم، ولهذا قال: وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا عن الحق. |
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَىٰ مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُودًا(61) التفسير المختصر: وإذا قيل لهؤلاء المنافقين: تعالوا إلى ما أنزل الله في كتابه من الحكم، وإلى الرسول ليحكم بينكم في خصامكم، رأيتهم - أيها الرسول - يُعرضون عنك إلى التحاكم إلى غيرك إعراضًا تامًّا. تفسير الجلالين: «وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله» في القرآن من الحكم «وإلى الرسول» ليحكم بينكم «رأيت المنافقين يصدون» يُعرضون «عنك» إلى غيرك «صدودا».
|
فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا(62) التفسير المختصر: فكيف يكون حال المنافقين إذا حدثت لهم مصائب بسبب ما ارتكبوه من الذنوب، ثم جاؤوك - أيها الرسول - معتذرين إليك يحلفون بالله: ما قصدنا بتحاكمنا إلى غيرك إلا الإحسان والتوفيق بين المتنازعين؟! وهم كاذبون في ذلك؛ فإن الإحسان هو في تحكيم شرع الله على عباده. تفسير الجلالين: «فكيف» يصنعون «إذا أصابتهم مصيبة» عقوبة «بما قدّمت أيديهم» من الكفر والمعاصي أي أيقدرون على الإعراض والفرار منها؟ لا «ثم جَاءُوك» معطوف على يصدون «يحلفون بالله إن» ما «أردنا» بالمحاكمة إلى غيرك «إلا إحسانا» صلحا «وتوفيقا» تأليفا بين الخصمين بالتقريب في الحكم دون الحمل على مر الحق. تفسير السعدي: فَكَيْفَ يكون حال هؤلاء الضالين إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ من المعاصي ومنها تحكيم الطاغوت؟! ثُمَّ جَاءُوكَ معتذرين لما صدر منهم، ويقولون: إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا أي: ما قصدنا في ذلك إلا الإحسان إلى المتخاصمين والتوفيق بينهم، وهم كَذَبة في ذلك. فإن الإحسان كل الإحسان تحكيم الله ورسوله ومَنْ أحْسَن من الله حكمًا لقوْمٍ يوقنون |
أُولَٰئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُل لَّهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا(63) التفسير المختصر: أولئك الذين يعلم الله ما يضمرون في قلوبهم من النفاق والقصد الرديء، فاتركهم - أيها الرسول - وأعرض عنهم، وبيِّن لهم حكم الله مرغِّبًا ومرهِّبًا وقل لهم قولًا بالغًا بلوغًا شديدًا متغلغلًا في نفوسهم. تفسير الجلالين: «أولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم» من النفاق وكذبهم في عذرهم «فأعرض عنهم» بالصفح «وعِظهم» خوِّفهم الله «وقل لهم في» شأن «أنفسهم قولا بليغا» مؤثرا فيهم أي أزجرهم ليرجعوا عن كفرهم. تفسير السعدي: أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ أي: من النفاق والقصد السيئ. فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ أي: لا تبال بهم ولا تقابلهم على ما فعلوه واقترفوه. وَعِظْهُمْ أي: بين لهم حكم الله تعالى مع الترغيب في الانقياد لله، والترهيب من تركه وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا أي: انصحهم سرا بينك وبينهم، فإنه أنجح لحصول المقصود، وبالغ في زجرهم وقمعهم عمَّا كانوا عليه، وفي هذا دليل على أن مقترف المعاصي وإن أعرض عنه فإنه ينصح سرًا، ويبالغ في وعظه بما يظن حصول المقصود به. |
وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ ۚ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا(64) التفسير المختصر: وما أرسلنا من رسول إلا لأجل أن يُطاع فيما يأمر به بمشيئة الله وتقديره، ولو أنهم حين ظلموا أنفسهم بارتكاب المعاصي جاؤوك - أيها الرسول - في حياتك مُقِرِّين بما ارتكبوه نادمين تائبين، وطلبوا المغفرة من الله، وطلبتَ المغفرة لهم؛ لوجدوا الله توابًا عليهم رحيمًا بهم. تفسير الجلالين: «وما أرسلنا من رسول إلا ليُطاع» فيما يأمر به ويحكم «بإذن الله» بأمره لا ليعصى ويخالف «ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم» بتحاكمهم إلى الطاغوت «جاءُوك» تائبين «فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول» فيه التفات عن الخطاب تفخيما لشأنه «لوجدوا الله توَابا» عليهم «رحيما» بهم. تفسير السعدي: يخبر تعالى خبرا في ضمنه الأمر والحث على طاعة الرسول والانقياد له. وأن الغاية من إرسال الرسل أن يكونوا مطاعين ينقاد لهم المرسلُ إليهم في جميع ما أمروا به ونهوا عنه، وأن يكونوا معظمين تعظيم المطيع للمطاع. وفي هذا إثبات عصمة الرسل فيما يبلغونه عن الله، وفيما يأمرون به وينهون عنه؛ لأن الله أمر بطاعتهم مطلقا، فلولا أنهم معصومون لا يشرعون ما هو خطأ، لما أمر بذلك مطلقا. وقوله: بِإِذْنِ اللَّهِ أي: الطاعة من المطيع صادرة بقضاء الله وقدره. ففيه إثبات القضاء والقدر، والحث على الاستعانة بالله، وبيان أنه لا يمكن الإنسان -إن لم يعنه الله- أن يطيع الرسول. ثم أخبر عن كرمه العظيم وجوده، ودعوته لمن اقترفوا السيئات أن يعترفوا ويتوبوا ويستغفروا الله فقال: وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ أي: معترفين بذنوبهم باخعين بها. فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا أي: لتاب عليهم بمغفرته ظلْمَهم، ورحمهم بقبول التوبة والتوفيق لها والثواب عليها، وهذا المجيء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم مختص بحياته؛ لأن السياق يدل على ذلك لكون الاستغفار من الرسول لا يكون إلا في حياته، وأما بعد موته فإنه لا يطلب منه شيء بل ذلك شرك. |
فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا(65) التفسير المختصر: فليس الأمر كما زعم هؤلاء المنافقون. ثم أقسم الله بذاته عز وجل أنهم لا يكونون مصدقين حقًّا حتى يتحاكموا إلى الرسول في حياته وإلى شرعه بعد وفاته في كل ما يحصل بينهم من خلافٍ، ثم يرضون بحكم الرسول، ولا يكون في صدورهم ضيق منه ولا شك فيه، ويسلِّموا تسليمًا تامًّا بانقياد ظواهرهم وبواطنهم. تفسير الجلالين: «فلا وربِّك» لا زائدة «لا يؤمنون حتى يحكِّموك فيما شجر» اختلط «بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا» ضيقا أو شكٌا «مما قضيت» به «ويسلِّموا» ينقادوا لحكمك «تسليما» من غير معارضة. تفسير السعدي: ثم أقسم تعالى بنفسه الكريمة أنهم لا يؤمنون حتى يحكموا رسوله فيما شجر بينهم، أي: في كل شيء يحصل فيه اختلاف، بخلاف مسائل الإجماع، فإنها لا تكون إلا مستندة للكتاب والسنة، ثم لا يكفي هذا التحكيم حتى ينتفي الحرج من قلوبهم والضيق، وكونهم يحكمونه على وجه الإغماض، ثم لا يكفي ذلك حتى يسلموا لحكمه تسليمًا بانشراح صدر، وطمأنينة نفس، وانقياد بالظاهر والباطن. فالتحكيم في مقام الإسلام، وانتفاء الحرج في مقام الإيمان، والتسليم في مقام الإحسان. فمَن استكمل هذه المراتب وكملها، فقد استكمل مراتب الدين كلها. فمَن ترك هذا التحكيم المذكور غير ملتزم له فهو كافر، ومَن تركه، مع التزامه فله حكم أمثاله من العاصين. |
وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِن دِيَارِكُم مَّا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِّنْهُمْ ۖ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا(66) التفسير المختصر: 66 - 68 - ولو أنا فرضنا عليهم قَتْل بعضهم بعضًا، أو الخروج من ديارهم؛ ما امتثل أمرنا منهم إلا عدد قليل، فليحمدوا الله أنه لم يكلفهم ما يشق عليهم، ولو أنهم فعلوا ما يذكرون به من طاعة الله لكان خيرًا من المخالفة، وأشد رسوخًا لإيمانهم، ولآتيناهم من عندنا ثوابًا عظيمًا، ولوفقناهم إلى الطريق الموصل إلى الله وجنته. تفسير الجلالين: «ولو أنا كتبنا عليهم أن» مفسرة «اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم» كما كتبنا على بني إسرائيل «ما فعلوه» أي المكتوب عليهم «إلا قليل» بالرفع على البدل والنصب على الاستثناء «منهم ولو أنهم فعلوا ما يوعَظون به» من طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم «لكان خيرا لهم وأشد تثبيتا» تحقيقا لإيمانهم. تفسير السعدي: يخبر تعالى أنه لو كتب على عباده الأوامر الشاقة على النفوس من قتل النفوس والخروج من الديار لم يفعله إلا القليل منهم والنادر، فليحمدوا ربهم وليشكروه على تيسير ما أمرهم به من الأوامر التي تسهل على كل أحد، ولا يشق فعلها، وفي هذا إشارة إلى أنه ينبغي أن يلحظ العبد ضد ما هو فيه من المكروهات، لتخف عليه العبادات، ويزداد حمدًا وشكرًا لربه. ثم أخبر أنهم لو فعلوا ما يوعظون به أي: ما وُظِّف عليهم في كل وقت بحسبه، فبذلوا هممهم، ووفروا نفوسهم للقيام به وتكميله، ولم تطمح نفوسهم لما لم يصلوا إليه، ولم يكونوا بصدده، وهذا هو الذي ينبغي للعبد، أن ينظر إلى الحالة التي يلزمه القيام بها فيكملها، ثم يتدرج شيئًا فشيئًا حتى يصل إلى ما قدر له من العلم والعمل في أمر الدين والدنيا، وهذا بخلاف من طمحت نفسه إلى أمر لم يصل إليه ولم يؤمر به بعد، فإنه لا يكاد يصل إلى ذلك بسبب تفريق الهمة، وحصول الكسل وعدم النشاط. ثم رتب ما يحصل لهم على فعل ما يوعظون به، وهو أربعة أمور: (أحدها) الخيرية في قوله: لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ أي: لكانوا من الأخيار المتصفين بأوصافهم من أفعال الخير التي أمروا بها، أي: وانتفى عنهم بذلك صفة الأشرار، لأن ثبوت الشيء يستلزم نفي ضده. (الثاني) حصول التثبيت والثبات وزيادته، فإن الله يثبت الذين آمنوا بسبب ما قاموا به من الإيمان، الذي هو القيام بما وعظوا به، فيثبتهم في الحياة الدنيا عند ورود الفتن في الأوامر والنواهي والمصائب، فيحصل لهم ثبات يوفقون لفعل الأوامر وترك الزواجر التي تقتضي النفس فعلها، وعند حلول المصائب التي يكرهها العبد. فيوفق للتثبيت بالتوفيق للصبر أو للرضا أو للشكر. فينزل عليه معونة من الله للقيام بذلك، ويحصل له الثبات على الدين، عند الموت وفي القبر. وأيضا فإن العبد القائم بما أمر به، لا يزال يتمرن على الأوامر الشرعية حتى يألفها ويشتاق إليها وإلى أمثالها، فيكون ذلك معونة له على الثبات على الطاعات. (الثالث) قوله: وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا أي: في العاجل والآجل الذي يكون للروح والقلب والبُدن، ومن النعيم المقيم مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر. (الرابع) الهداية إلى صراط مستقيم. وهذا عموم بعد خصوص، لشرف الهداية إلى الصراط المستقيم، من كونها متضمنة للعلم بالحق، ومحبته وإيثاره والعمل به، وتوقف السعادة والفلاح على ذلك، فمن هُدِيَ إلى صراط مستقيم، فقد وُفِّقَ لكل خير واندفع عنه كل شر وضير. |
وَإِذًا لَّآتَيْنَاهُم مِّن لَّدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا(67) التفسير المختصر: 66 - 68 - ولو أنا فرضنا عليهم قَتْل بعضهم بعضًا، أو الخروج من ديارهم؛ ما امتثل أمرنا منهم إلا عدد قليل، فليحمدوا الله أنه لم يكلفهم ما يشق عليهم، ولو أنهم فعلوا ما يذكرون به من طاعة الله لكان خيرًا من المخالفة، وأشد رسوخًا لإيمانهم، ولآتيناهم من عندنا ثوابًا عظيمًا، ولوفقناهم إلى الطريق الموصل إلى الله وجنته. تفسير الجلالين: «وإذا» أي لو ثبتوا «لآتيناهم من لدَّنا» من عندنا «أجرا عظيما» هو الجنة. تفسير السعدي: رتب ما يحصل لهم على فعل ما يوعظون به، وهو أربعة أمور:(الثالث) قوله: وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا أي: في العاجل والآجل الذي يكون للروح والقلب والبُدن، ومن النعيم المقيم مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر. |
وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا(68) التفسير المختصر: 66 - 68 - ولو أنا فرضنا عليهم قَتْل بعضهم بعضًا، أو الخروج من ديارهم؛ ما امتثل أمرنا منهم إلا عدد قليل، فليحمدوا الله أنه لم يكلفهم ما يشق عليهم، ولو أنهم فعلوا ما يذكرون به من طاعة الله لكان خيرًا من المخالفة، وأشد رسوخًا لإيمانهم، ولآتيناهم من عندنا ثوابًا عظيمًا، ولوفقناهم إلى الطريق الموصل إلى الله وجنته. تفسير الجلالين: «ولهديناهم صراطا مستقيما» قال بعض الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم كيف نراك في الجنة وأنت في الدرجات العلى ونحن أسفل منك فنزل. تفسير السعدي: رتب ما يحصل لهم على فعل ما يوعظون به، وهو أربعة أمور: ( الرابع ) الهداية إلى صراط مستقيم. وهذا عموم بعد خصوص، لشرف الهداية إلى الصراط المستقيم، من كونها متضمنة للعلم بالحق، ومحبته وإيثاره والعمل به، وتوقف السعادة والفلاح على ذلك، فمن هُدِيَ إلى صراط مستقيم، فقد وُفِّقَ لكل خير واندفع عنه كل شر وضير. |
وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَٰئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ ۚ وَحَسُنَ أُولَٰئِكَ رَفِيقًا(69) التفسير المختصر: ومن يطع الله والرسول فهو مع من أنعم الله عليهم بدخول الجنة من الأنبياء والصديقين الذين كمل تصديقهم بما جاءت به الرسل، وعملوا به، والشهداء الذين قتلوا في سبيل الله، والصالحين الذين صلحت ظواهرهم وبواطنهم فصلحت أعمالهم، ما أحسن أولئك من رفقاء في الجنة. تفسير الجلالين: «ومن يطع الله والرسول» فيما أمر به «فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين» أفاضل أصحاب الأنبياء لمبالغتهم في الصدق والتصديق «والشهداء» القتلى في سبيل الله «والصالحين» غير من ذكر «وحسُن أولئك رفيقا» رفقاء في الجنة بأن يستمتع فيها برؤيتهم وزيارتهم والحضور معهم وإن كان مقرهم في الدرجات العالية بالنسبة إلى غيرهم. تفسير السعدي: أي: كل مَنْ أطاع الله ورسوله على حسب حاله وقدر الواجب عليه من ذكر وأنثى وصغير وكبير، فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ أي: النعمة العظيمة التي تقتضي الكمال والفلاح والسعادة مِنَ النَّبِيِّينَ الذين فضلهم الله بوحيه، واختصهم بتفضيلهم بإرسالهم إلى الخلق، ودعوتهم إلى الله تعالى وَالصِّدِّيقِينَ وهم: الذين كمل تصديقهم بما جاءت به الرسل، فعلموا الحق وصدقوه بيقينهم، وبالقيام به قولا وعملا وحالا ودعوة إلى الله، وَالشُّهَدَاءِ الذين قاتلوا في سبيل الله لإعلاء كلمة الله فقتلوا، وَالصَّالِحِينَ الذين صلح ظاهرهم وباطنهم فصلحت أعمالهم، فكل من أطاع الله تعالى كان مع هؤلاء في صحبتهم وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا بالاجتماع بهم في جنات النعيم والأُنْس بقربهم في جوار رب العالمين. |
ذَٰلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ ۚ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ عَلِيمًا(70) التفسير المختصر: ذلك الثواب المذكور تَفَضُّلٌ من الله على عباده، وكفى بالله عليمًا بأحوالهم، وسيجازي كلًّا بعمله. تفسير الجلالين: «ذلك» أي كونهم مع ذكر مبتدأ خبره «الفضل من الله» تفضل به عليهم لا أنهم نالوه بطاعتهم «وكفى بالله عليما» بثواب الآخرة أي فثقوا بما أخبركم به (ولا ينبئك مثل خبير). تفسير السعدي: ذَلِكَ الْفَضْلُ الذي نالوه مِنَ اللَّهِ فهو الذي وفقهم لذلك، وأعانهم عليه، وأعطاهم من الثواب ما لا تبلغه أعمالهم. وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا يعلم أحوال عباده ومن يستحق منهم الثواب الجزيل، بما قام به من الأعمال الصالحة التي تواطأ عليها القلب والجوارح. |
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انفِرُوا جَمِيعًا(71) التفسير المختصر: يا أيها الذين آمنوا بالله واتبعوا رسوله، خذوا الحذر من أعدائكم باتخاذ الأسباب المعينة على قتالهم، فاخرجوا إليهم جماعة بعد جماعة، أو اخرجوا إليهم جميعًا، كل ذلك حسب ما فيه مصلحتكم، وما فيه النكاية بأعدائكم. تفسير الجلالين: «يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم» من عدوكم أي احترزوا منه وتيقظوا له «فانفروا» انهضوا إلى قتاله «ثُبَاتٍ» متفرقين سرية بعد أخرى «أو انفروا جميعا» مجتمعين. تفسير السعدي: يأمر تعالى عباده المؤمنين بأخذ حذرهم من أعدائهم الكافرين. وهذا يشمل الأخذ بجميع الأسباب، التي بها يستعان على قتالهم ويستدفع مكرهم وقوتهم، من استعمال الحصون والخنادق، وتعلم الرمي والركوب، وتعلم الصناعات التي تعين على ذلك، وما به يعرف مداخلهم، ومخارجهم، ومكرهم، والنفير في سبيل الله. ولهذا قال: فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أي: متفرقين بأن تنفر سرية أو جيش، ويقيم غيرهم أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا وكل هذا تبع للمصلحة والنكاية، والراحة للمسلمين في دينهم، وهذه الآية نظير قوله تعالى: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ |
وَإِنَّ مِنكُمْ لَمَن لَّيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُن مَّعَهُمْ شَهِيدًا(72) التفسير المختصر: وإنَّ منكم -أيها المسلمون- أقوامًا يتباطؤون عن الخروج لقتال أعدائكم لجبنهم، ويبطِّئون غيرهم، وهم المنافقون وضعيفو الإيمان، فإن نالكم قتل أو هزيمة قال أحدهم فرحًا بسلامته: قد تفضل الله علي فلم أحضر القتال معهم فيصيبني ما أصابهم. تفسير الجلالين: «وإنَّ منكم لمن ليبطئنَّ» ليتأخرن عن القتال كعبد الله بن أبيّ المنافق وأصحابه وجعله منهم من حيث الظاهر واللام في الفعل للقسم «فإن أصابتكم مصيبة» كقتل وهزيمة «قال قد أنعم الله علىَّ إذ لم أكن معهم شهيدا» حاضرا فأصاب. تفسير السعدي: ثم أخبر عن ضعفاء الإيمان المتكاسلين عن الجهاد فقال: وَإِنَّ مِنْكُمْ أي: أيها المؤمنون لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ أي: يتثاقل عن الجهاد في سبيل الله ضعفا وخورا وجبنا، هذا الصحيح. وقيل معناه: ليبطئن غيرَه أي: يزهده عن القتال، وهؤلاء هم المنافقون، ولكن الأول أَولى لوجهين: أحدهما: قوله مِنْكُمْ والخطاب للمؤمنين. والثاني: قوله في آخر الآية: كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ فإن الكفار من المشركين والمنافقين قد قطع الله بينهم وبين المؤمنين المودة. وأيضا فإن هذا هو الواقع، فإن المؤمنين على قسمين: صادقون في إيمانهم أوجب لهم ذلك كمال التصديق والجهاد. وضعفاء دخلوا في الإسلام فصار معهم إيمان ضعيف لا يقوى على الجهاد. كما قال تعالى: قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا إلى آخر الآيات. ثم ذكر غايات هؤلاء المتثاقلين ونهاية مقاصدهم، وأن معظم قصدهم الدنيا وحطامها فقال: فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ أي: هزيمة وقتل، وظفر الأعداء عليكم في بعض الأحوال لما لله في ذلك من الحكم. قَالَ ذلك المتخلف قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا رأى من ضعف عقله وإيمانه أن التقاعد عن الجهاد الذي فيه تلك المصيبة نعمة. ولم يدر أن النعمة الحقيقية هي التوفيق لهذه الطاعة الكبيرة، التي بها يقوى الإيمان، ويسلم بها العبد من العقوبة والخسران، ويحصل له فيها عظيم الثواب ورضا الكريم الوهاب. وأما القعود فإنه وإن استراح قليلاً، فإنه يعقبه تعب طويل وآلام عظيمة، ويفوته ما يحصل للمجاهدين. |
وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِّنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَن لَّمْ تَكُن بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيْتَنِي كُنتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا(73) التفسير المختصر: ولئن نالكم - أيها المسلمون - فضل من الله بنصر أو غنيمة ليقولَنَّ هذا المتخلف عن الجهاد كأنه ليس منكم ولم تكن بينكم وبينه محبة وصحبة: يا ليتني كنت معهم في قتالهم هذا فأظفر بعظيم ما ظفروا به. تفسير الجلالين: «ولئن» لام قسم «أصابكم فضل من الله» كفتح وغنيمة «لَيَقُولَنَّ» نادما «كأن» مخففة واسمها محذوف أي كأنه «لم يكن» بالياء والتاء «بينكم وبينه مودة» معرفة وصداقة وهذا راجع إلى قوله (قد أنعم الله علىَّ)، اعترض به بين القول ومقوله وهو «يا» للتنبيه «ليتني كنت معهم فأفوزَ فوزا عظيما» آخذ حظا وافرا من الغنيمة قال تعالى. تفسير السعدي: وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ أي: نصر وغنيمة لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا أي: يتمنى أنه حاضر لينال من المغانم، ليس له رغبة ولا قصد في غير ذلك، كأنه ليس منكم يا معشر المؤمنين ولا بينكم وبينه المودة الإيمانية التي من مقتضاها أن المؤمنين مشتركون في جميع مصالحهم ودفع مضارهم، يفرحون بحصولها ولو على يد غيرهم من إخوانهم المؤمنين ويألمون بفقدها، ويسعون جميعا في كل أمر يصلحون به دينهم ودنياهم، فهذا الذي يتمنى الدنيا فقط، ليست معه الروح الإيمانية المذكورة. |
۞ فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ ۚ وَمَن يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا(74) التفسير المختصر: فليقاتل في سبيل الله لتكون كلمة الله هي العليا، المؤمنون الصادقون الذين يبيعون الحياة الدنيا رغبة عنها، بالآخرة رغبة فيها، ومن يقاتلْ في سبيل الله لتكون كلمته هي العليا فيُقتلْ شهيدًا، أو يظهَرْ على عدوه، ويظفر به، فسيعطيه الله ثوابًا عظيمًا، وهو الجنة ورضوان الله. تفسير الجلالين: «فليقاتل في سبيل الله» لإعلاء دينه «الذين يشرون» يبيعون «الحياة الدنيا بالآخرة ومن يقاتل في سبيل الله فيُقتل» يستشهد «أو يَغلب» يظفر بعدوه «فسوف نؤتيه أجرا عظيما» ثوابا جزيلا. تفسير السعدي: ومن لطف الله بعباده أن لا يقطع عنهم رحمته، ولا يغلق عنهم أبوابها. بل من حصل منه غير ما يليق أمره ودعاه إلى جبر نقصه وتكميل نفسه، فلهذا أمر هؤلاء بالإخلاص والخروج في سبيله فقال: فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ هذا أحد الأقوال في هذه الآية وهو أصحها. وقيل: إن معناه: فليقاتل في سبيل الله المؤمنون الكاملو الإيمان، الصادقون في إيمانهم الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ أي: يبيعون الدنيا رغبة عنها بالآخرة رغبة فيها. فإن هؤلاء الذين يوجه إليهم الخطاب لأنهم الذين قد أعدوا أنفسهم ووطَّنوها على جهاد الأعداء، لما معهم من الإيمان التام المقتضي لذلك. وأما أولئك المتثاقلون، فلا يعبأ بهم خرجوا أو قعدوا، فيكون هذا نظير قوله تعالى: قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا إلى آخر الآيات. وقوله: فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ وقيل: إن معنى الآية: فليقاتل المقاتل والمجاهد للكفار الذين يشرون الحياة الدنيا بالآخرة، فيكون على هذا الوجه "الذين" في محل نصب على المفعولية. وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بأن يكون جهادا قد أمر الله به ورسوله، ويكون العبد مخلصا لله فيه قاصدا وجه الله. فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا زيادة في إيمانه ودينه، وغنيمة، وثناء حسنا، وثواب المجاهدين في سبيل الله الذين أعد الله لهم في الجنة ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر. |
وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَٰذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيرًا(75) التفسير المختصر: وما المانع لكم - أيها المؤمنون - من الجهاد في سبيل الله لإعلاء كلمته، ولاستنقاذ المستضعفين من الرجال والنساء والأطفال الذين يدعون الله قائلين: يا ربنا، أخرجنا من مكة لظلم أهلها بالشرك بالله والاعتداء على عباده، واجعل لنا من عندك من يتولى أمرنا بالرعاية والحفظ، ونصيرًا يدفع عنا الضر. تفسير الجلالين: «وما لكم لا تقاتلون» إستفهام توبيخ، أي لا مانع لكم من القتال «في سبيل الله و» في تخليص «المستضعفين من الرجال والنساء والولدان» الذين حبسهم الكفار عن الهجرة وآذوهم، قال ابن عباس رضي الله عنهما: كنت أنا وأمي منهم «الذين يقولون» داعين يا «ربنا أخرجنا من هذه القرية» مكة «الظالم أهلُها» بالكفر «واجعل لنا من لدنك» من عندك «وليّاً» يتولى أمورنا «واجعل لنا من لدنك نصيرا» يمنعنا منهم وقد استجاب الله دعاءهم فيَسَّر لبعضهم الخروج وبقي بعضهم إلى أن فتحت مكة ووَلَّى صلى الله عليه وسلم عتاب بن أسيد فأنصف مظلومهم من ظالمهم. تفسير السعدي: هذا حث من الله لعباده المؤمنين وتهييج لهم على القتال في سبيله، وأن ذلك قد تعين عليهم، وتوجه اللوم العظيم عليهم بتركه، فقال: وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ والحال أن المستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلاً، ومع هذا فقد نالهم أعظم الظلم من أعدائهم، فهم يدعون الله أن يخرجهم من هذه القرية الظالم أهلها لأنفسهم بالكفر والشرك، وللمؤمنين بالأذى والصد عن سبيل الله، ومنعهم من الدعوة لدينهم والهجرة. ويدعون الله أن يجعل لهم وليًّا ونصيرًا يستنقذهم من هذه القرية الظالم أهلها، فصار جهادكم على هذا الوجه من باب القتال والذب عن عيلاتكم وأولادكم ومحارمكم، لا من باب الجهاد الذي هو الطمع في الكفار، فإنه وإن كان فيه فضل عظيم ويلام المتخلف عنه أعظم اللوم، فالجهاد الذي فيه استنقاذ المستضعفين منكم أعظم أجرًا وأكبر فائدة، بحيث يكون من باب دفع الأعداء. |
الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ۖ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ ۖ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا(76) التفسير المختصر: المؤمنون الصادقون يقاتلون في سبيل الله لإعلاء كلمته، والكافرون يقاتلون في سبيل آلهتهم، فقاتلوا أعوان الشيطان، فإنكم إن قاتلتموهم غلبتموهم؛ لأن تدبير الشيطان كان ضعيفًا لا يضر المتوكلين على الله تعالى. تفسير الجلالين: «الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت» الشيطان «فقاتلوا أولياء الشيطان» أنصار دينه تغلبوهم لقوتكم بالله «إن كيد الشيطان» بالمؤمنين «كان ضعيفا» واهيا لا يقاوم كيد الله بالكافرين تفسير السعدي: هذا إخبار من الله بأن المؤمنين يقاتلون في سبيله وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ الذي هو الشيطان. في ضمن ذلك عدة فوائد: منها: أنه بحسب إيمان العبد يكون جهاده في سبيل الله، وإخلاصه ومتابعته. فالجهاد في سبيل الله من آثار الإيمان ومقتضياته ولوازمه، كما أن القتال في سبيل الطاغوت من شعب الكفر ومقتضياته. ومنها: أن الذي يقاتل في سبيل الله ينبغي له ويحسن منه من الصبر والجلد ما لا يقوم به غيره، فإذا كان أولياء الشيطان يصبرون ويقاتلون وهم على باطل، فأهل الحق أولى بذلك، كما قال تعالى في هذا المعنى: إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ الآية. ومنها: أن الذي يقاتل في سبيل الله معتمد على ركن وثيق، وهو الحق، والتوكل على الله. فصاحب القوة والركن الوثيق يطلب منه من الصبر والثبات والنشاط ما لا يطلب ممن يقاتل عن الباطل، الذي لا حقيقة له ولا عاقبة حميدة. فلهذا قال تعالى: فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا والكيد: سلوك الطرق الخفية في ضرر العدو، فالشيطان وإن بلغ مَكْرُهُ مهما بلغ فإنه في غاية الضعف، الذي لا يقوم لأدنى شيء من الحق ولا لكيد الله لعباده المؤمنين. |
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً ۚ وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَىٰ أَجَلٍ قَرِيبٍ ۗ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ اتَّقَىٰ وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا(77) التفسير المختصر: ألم تعلم - أيها الرسول - شأن بعض أصحابك الذين سألوا أن يُفرض عليهم الجهاد، فقيل لهم: امنعوا أيديكم عن القتال، وأقيموا الصلاة، وآتوا الزكاة - وكان ذلك قبل فرض الجهاد - فلما هاجروا إلى المدينة، وصار للإسلام منعة، وفُرِض القتال؛ شَقَّ ذلك على بعضهم، فصاروا يخافون الناس كخوفهم من الله أو أشد، وقالوا: يا ربنا، لم فرضت علينا القتال؟ هلَّا أخرته مدة قريبة حتى نتمتع بالدنيا، قل لهم -أيها الرسول -: متاع الدنيا مهما بلغ قليل زائل، والآخرة خير لمن اتقى الله تعالى لدوام ما فيها من النعيم، ولا تُنْقصون من أعمالكم الصالحة أي شيء، ولو كان قَدْر الخيط الذي في نواة التمرة. تفسير الجلالين: «ألم تر إلى الذين قيل لهم كفُّوا أيديكم» عن قتال الكفار لما طلبوه بمكة لأذى الكفار لهم وهم جماعة من الصحابة «وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة فلما كُتب» فرض «عليهم القتال إذا فريق منهم يخشون» يخافون «الناس» الكفار، أي عذابهم بالقتل «كَخَشْيَتـ» ـهم عذاب «الله أو أشدَّ خشية» من خشيتهم له ونصب أشد على الحال وجواب لما دل عليه إذا وما بعدها أي فاجأتهم الخشية «وقالوا» جزعا من الموت «ربَنا لم كتبت علينا القتال لولا» هلاّ «أخَّرتنا إلى أجل قريب قل» لهم «متاعُ الدنيا» ما يتمتع به فيها أو الاستمتاع بها «قليل» آيل إلى الفناء «والآخرة» أي الجنة «خير لمن اتقى» عقاب الله بترك معصيته «ولا تُظلمون» بالتاء والياء تنقصون من أعمالكم «فتيلا» قدر قشرة النواة فجاهدوا. تفسير السعدي: كان المسلمون -إذ كانوا بمكة- مأمورين بالصلاة والزكاة أي: مواساة الفقراء، لا الزكاة المعروفة ذات النصب والشروط، فإنها لم تفرض إلا بالمدينة، ولم يؤمروا بجهاد الأعداء لعدة فوائد: منها: أن من حكمة الباري تعالى أن يشرع لعباده الشرائع على وجه لا يشق عليهم؛ ويبدأ بالأهم فالأهم، والأسهل فالأسهل. ومنها: أنه لو فرض عليهم القتال -مع قلة عَدَدِهِم وعُدَدِهِم وكثرة أعدائهم- لأدى ذلك إلى اضمحلال الإسلام، فروعي جانب المصلحة العظمى على ما دونها ولغير ذلك من الحِكَم. وكان بعض المؤمنين يودون أن لو فرض عليهم القتال في تلك الحال، غير اللائق فيها ذلك، وإنما اللائق فيها القيام بما أمروا به في ذلك الوقت من التوحيد والصلاة والزكاة ونحو ذلك كما قال تعالى: وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا فلما هاجروا إلى المدينة وقوي الإسلام، كُتب عليهم القتال في وقته المناسب لذلك، فقال فريق من الذين يستعجلون القتال قبل ذلك خوفا من الناس وضعفا وخورا: رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ ؟ وفي هذا تضجرهم واعتراضهم على الله، وكان الذي ينبغي لهم ضد هذه الحال، التسليم لأمر الله والصبر على أوامره، فعكسوا الأمر المطلوب منهم فقالوا: لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ أي: هلَّا أخرت فرض القتال مدة متأخرة عن الوقت الحاضر، وهذه الحال كثيرًا ما تعرض لمن هو غير رزين واستعجل في الأمور قبل وقتها، فالغالب عليه أنه لا يصبر عليها وقت حلولها ولا ينوء بحملها، بل يكون قليل الصبر. ثم إن الله وعظهم عن هذه الحال التي فيها التخلف عن القتال فقال: قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى أي: التمتع بلذات الدنيا وراحتها قليل، فتحمل الأثقال في طاعة الله في المدة القصيرة مما يسهل على النفوس ويخف عليها؛ لأنها إذا علمت أن المشقة التي تنالها لا يطول لبثها هان عليها ذلك، فكيف إذا وازنت بين الدنيا والآخرة، وأن الآخرة خير منها، في ذاتها، ولذاتها وزمانها، فذاتها -كما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الثابت عنه- "أن موضع سوط في الجنة خير من الدنيا وما فيها" . ولذاتها صافية عن المكدرات، بل كل ما خطر بالبال أو دار في الفكر من تصور لذة، فلذة الجنة فوق ذلك كما قال تعالى: فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ وقال الله على لسان نبيه: "أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر" . وأما لذات الدنيا فإنها مشوبة بأنواع التنغيص الذي لو قوبل بين لذاتها وما يقترن بها من أنواع الآلام والهموم والغموم، لم يكن لذلك نسبة بوجه من الوجوه. وأما زمانها، فإن الدنيا منقضية، وعمر الإنسان بالنسبة إلى الدنيا شيء يسير، وأما الآخرة فإنها دائمة النعيم وأهلها خالدون فيها، فإذا فكّر العاقل في هاتين الدارين وتصور حقيقتهما حق التصور، عرف ما هو أحق بالإيثار، والسعي له والاجتهاد لطلبه، ولهذا قال: وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى أي: اتقى الشرك، وسائر المحرمات. وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا أي: فسعيكم للدار الآخرة ستجدونه كاملاً موفرًا غير منقوص منه شيئًا. |
أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ ۗ وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَٰذِهِ مِنْ عِندِ اللَّهِ ۖ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَٰذِهِ مِنْ عِندِكَ ۚ قُلْ كُلٌّ مِّنْ عِندِ اللَّهِ ۖ فَمَالِ هَٰؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا(78) التفسير المختصر: حيثما تكونوا يلحقكم الموت إذا حضر أجلكم، ولو كنتم في قصور منيعة بعيدة عن ساحة القتال، وإن يَنَلْ هؤلاء المنافقين ما يسرهم من ولد ورزق كثير قالوا: هذه من عند الله، وإن يَنَلْهم شدة في ولدٍ أو رزق تشاءموا من النبي صلى الله عليه وسلموقالوا: هذه السيئة بسببك، قل - أيها الرسول - ردًّا على هؤلاء: كل من السراء والضراء بقضاء الله وقدره، فما لهؤلاء الذين يصدر عنهم هذا القول لا يكادون يفهمون كلامك لهم؟! تفسير الجلالين: «أينما تكونوا يدرككُّم الموت ولو كنتم في بروج» حصون «مشيدة» مرتفعة فلا تخشوا القتال خوف الموت «وإن تصبهم» أي اليهود «حسنة» خصب وسعة «يقولوا هذه من عند الله وإن تصبهم سيئة» جدب وبلاء كما لهم عند قدوم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة «يقولوا هذه من عندك» يا محمد أي بشؤمك «قل» لهم «كل» من الحسنة والسيئة «من عند الله» من قبله «فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون» أي لا يقاربون أن يفهموا «حديثا» يُلقى إليهم وما استفهام تعجب من فرط جهلهم ونفي مقاربة الفعل أشد من نفيه. تفسير السعدي: ثم أخبر أنه لا يغني حذر عن قدر، وأن القاعد لا يدفع عنه قعوده شيئًا، فقال: أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُكُمُ الْمَوْتُ أي: في أي زمان وأي مكان. وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ أي: قصور منيعة ومنازل رفيعة، وكل هذا حث على الجهاد في سبيل الله تارة بالترغيب في فضله وثوابه، وتارة بالترهيب من عقوبة تركه، وتارة بالإخبار أنه لا ينفع القاعدين قعودُهم، وتارة بتسهيل الطريق في ذلك وقصرها.يخبر تعالى عن الذين لا يعلمون المعرضين عما جاءت به الرسل، المعارضين لهم أنهم إذا جاءتهم حسنة أي: خصب وكثرة أموال، وتوفر أولاد وصحة، قالوا: هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وأنهم إن أصابتهم سيئة أي: جدب وفقر، ومرض وموت أولاد وأحباب قالوا: هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ أي: بسبب ما جئتنا به يا محمد، تطيروا برسول الله صلى الله عليه وسلم كما تطير أمثالهم برسل الله، كما أخبر الله عن قوم فرعون أنهم قالوا لموسى فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ وقال قوم صالح: قالوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ وقال قوم ياسين لرسلهم: إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ الآية. فلما تشابهت قلوبهم بالكفر تشابهت أقوالهم وأعمالهم. وهكذا كل من نسب حصول الشر أو زوال الخير لما جاءت به الرسل أو لبعضه فهو داخل في هذا الذم الوخيم. قال الله في جوابهم: قُلْ كُلٌّ أي: من الحسنة والسيئة والخير والشر. مِنْ عِنْدِ اللَّهِ أي: بقضائه وقدره وخلقه. فَمَا لهَؤُلَاءِ الْقَوْم أي: الصادر منهم تلك المقالة الباطلة. لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا أي: لا يفهمون حديثا بالكلية ولا يقربون من فهمه، أو لا يفهمون منه إلا فهمًا ضعيفًا، وعلى كل فهو ذم لهم وتوبيخ على عدم فهمهم وفقههم عن الله وعن رسوله، وذلك بسبب كفرهم وإعراضهم. وفي ضمن ذلك مدْح من يفهم عن الله وعن رسوله، والحث على ذلك، وعلى الأسباب المعينة على ذلك، من الإقبال على كلامهما وتدبره، وسلوك الطرق الموصلة إليه. فلو فقهوا عن الله لعلموا أن الخير والشر والحسنات والسيئات كلها بقضاء الله وقدره، لا يخرج منها شيء عن ذلك. وأن الرسل عليهم الصلاة والسلام لا يكونون سببا لشر يحدث، هم ولا ما جاءوا به لأنهم بعثوا بصلاح الدنيا والآخرة والدين. |
مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ۖ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ ۚ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا ۚ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ شَهِيدًا(79) التفسير المختصر: ما نالك - يا ابن آدم - مما يسرك من رزق وولد فهو من الله، تفضَّل به عليك، وما نالك مما يسوؤك في رزقك وولدك فهو من نفسك بسبب ما ارتكبته من المعاصي. وقد بعثناك - أيها النبي - لجميع الناس رسولًا من الله تبلغهم رسالة ربك، وكفى بالله شاهدًا على صدقك فيما تبلغه عنه، بما آتاك من أدلة وبراهين. تفسير الجلالين: (ما أصابك) أيها الإنسان (من حسنة) خير (فمن الله) أتتك فضلا منه (وما أصابك من سيئة) بليَّة (فمن نفسك) أتتك حيث ارتكبت ما يستوجبها من الذنوب (وأرسلناك) يا محمد (للناس رسولا) حال مؤكدة (وكفى بالله شهيدا) على رسالتك. تفسير السعدي: مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ أي: في الدين والدنيا فَمِنَ اللَّهِ هو الذي مَنَّ بها ويسرها بتيسير أسبابها. وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ في الدين والدنيا فَمِنْ نَفْسِكَ أي: بذنوبك وكسبك، وما يعفو الله عنه أكثر. فالله تعالى قد فتح لعباده أبواب إحسانه وأمرهم بالدخول لبره وفضله، وأخبرهم أن المعاصي مانعة من فضله، فإذا فعلها العبد فلا يلومن إلا نفسه فإنه المانع لنفسه عن وصول فضل الله وبره. ثم أخبر عن عموم رسالة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم فقال: وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا على أنك رسول الله حقا بما أيدك بنصره والمعجزات الباهرة والبراهين الساطعة، فهي أكبر شهادة على الإطلاق، كما قال تعالى: قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ فإذا علم أن الله تعالى كامل العلم، تام القدرة عظيم الحكمة، وقد أيد الله رسوله بما أيده، ونصره نصرا عظيما، تيقن بذلك أنه رسول الله، وإلا فلو تقول عليه بعض الأقاويل لأخذ منه باليمين، ثم لقطع منه الوتين. |
مَّن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ ۖ وَمَن تَوَلَّىٰ فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا(80) التفسير المختصر: من يطع الرسول بامتثال ما أمر به، واجتناب ما نهى عنه؛ فقد استجاب لأمر الله، ومن أعرض عن طاعتك - أيها الرسول - فلا تحزن عليه، فما أرسلناك مراقبًا عليه تحفظ أعماله، وإنما نحن من يحصي عمله ويحاسبه. تفسير الجلالين: «من يطع الرسول فقد أطاع الله ومن تولى أعرض عن طاعتك فلا يهمنَّك «فما أرسلناك عليهم حفيظا» حافظا لأعمالهم بل نذيرا وإلينا أمرهم فنجازيهم وهذا قبل الأمر بالقتال. تفسير السعدي: أي: كل مَنْ أطاع رسول الله في أوامره ونواهيه فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ تعالى لكونه لا يأمر ولا ينهى إلا بأمر الله وشرعه ووحيه وتنزيله، وفي هذا عصمة الرسول صلى الله عليه وسلم لأن الله أمر بطاعته مطلقا، فلولا أنه معصوم في كل ما يُبَلِّغ عن الله لم يأمر بطاعته مطلقا، ويمدح على ذلك. وهذا من الحقوق المشتركة فإن الحقوق ثلاثة: حق لله تعالى لا يكون لأحد من الخلق، وهو عبادة الله والرغبة إليه، وتوابع ذلك. وقسم مختص بالرسول، وهو التعزير والتوقير والنصرة. وقسم مشترك، وهو الإيمان بالله ورسوله ومحبتهما وطاعتهما، كما جمع الله بين هذه الحقوق في قوله: لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا فمَنْ أطاع الرسول فقد أطاع الله، وله من الثواب والخير ما رتب على طاعة الله وَمَنْ تَوَلَّى عن طاعة الله ورسوله فإنه لا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئًا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا أي: تحفظ أعمالهم وأحوالهم، بل أرسلناك مبلغا ومبينا وناصحا، وقد أديت وظيفتك، ووجب أجرك على الله، سواء اهتدوا أم لم يهتدوا. كما قال تعالى: فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ الآية. |
وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِندِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِّنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ ۖ وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ ۖ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ۚ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ وَكِيلًا(81) التفسير المختصر: ويقول المنافقون لك بألسنتهم: نطيع أمرك ونمتثله، فإذا خرجوا من عندك دَبَّر جماعة منهم على وجه الخفاء خلاف ما أظهروا لك، والله يعلم ما يدبِّرون، وسيجازيهم على كيدهم هذا، فلا تلتفت لهم؛ فلن يضروك شيئًا، وفوِّض أمرك إلى الله، واعتمد عليه، وكفى بالله وكيلًا تعتمد عليه. تفسير الجلالين: «ويقولون» أي المنافقون إذا جاءوك أمرنا «طاعةٌ» لك «فإذا برزوا» خرجوا «من عندك بيَّت طائفة منهم» بإدغام التاء في الطاء وتركه أي أضمرت «غير الذي تقول» لك في حضورك من الطاعة أي عصيانك «والله يكتب» يأمر بكتب «ما يبيِّتون» في صحائفهم ليجازوا عليه «فأعرض عنهم» بالصفح «وتوكل على الله» ثق به فانه كافيك «وكفى بالله وكيلا» مفوضا إليه. تفسير السعدي: ولا بد أن تكون طاعة الله ورسوله ظاهرًا وباطنًا في الحضرة والمغيب. فأما مَنْ يظهر في الحضرة والطاعة والالتزام فإذا خلا بنفسه أو أبناء جنسه ترك الطاعة وأقبل على ضدها، فإن الطاعة التي أظهرها غير نافعة ولا مفيدة، وقد أشبه من قال الله فيهم: وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ أي: يظهرون الطاعة إذا كانوا عندك. فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ أي: خرجوا وخلوا في حالة لا يطلع فيها عليهم. بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ أي: بيتوا ودبروا غير طاعتك ولا ثَمَّ إلا المعصية. وفي قوله: بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ دليل على أن الأمر الذي استقروا عليه غير الطاعة؛ لأن التبييت تدبير الأمر ليلا على وجه يستقر عليه الرأي، ثم توعدهم على ما فعلوا فقال: وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ أي: يحفظه عليهم وسيجازيهم عليه أتم الجزاء، ففيه وعيد لهم. ثم أمر رسوله بمقابلتهم بالإعراض وعدم التعنيف، فإنهم لا يضرونه شيئا إذا توكل على الله واستعان به في نصر دينه، وإقامة شرعه. ولهذا قال: فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا |
أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ ۚ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا(82) التفسير المختصر: لِمَ لا يتأمل هؤلاء القرآن ويدرسونه حتى يثبت لهم أنه لا يوجد فيه اختلاف ولا اضطراب؟! وحتى يعلموا صدق ما جئت به، ولو كان من عند غير الله تعالى لوجدوا فيه اضطرابًا في أحكامه واختلافًا كثيرًا في معانيه. تفسير الجلالين: «أفلا يتدبرون» يتأملون «القرآن» وما فيه من المعاني البديعة «ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا» تناقضا في معانيه وتباينا في نظمه. تفسير السعدي: يأمر تعالى بتدبر كتابه، وهو التأمل في معانيه، وتحديق الفكر فيه، وفي مبادئه وعواقبه، ولوازم، ذلك فإن تدبر كتاب الله مفتاح للعلوم والمعارف، وبه يستنتج كل خير وتستخرج منه جميع العلوم، وبه يزداد الإيمان في القلب وترسخ شجرته. فإنه يعرِّف بالرب المعبود، وما له من صفات الكمال; وما ينزه عنه من سمات النقص، ويعرِّف الطريق الموصلة إليه وصفة أهلها، وما لهم عند القدوم عليه، ويعرِّف العدو الذي هو العدو على الحقيقة، والطريق الموصلة إلى العذاب، وصفة أهلها، وما لهم عند وجود أسباب العقاب. وكلما ازداد العبد تأملا فيه ازداد علما وعملا وبصيرة، لذلك أمر الله بذلك وحث عليه وأخبر أنه [هو] المقصود بإنزال القرآن، كما قال تعالى: كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ وقال تعالى: أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا ومن فوائد التدبر لكتاب الله: أنه بذلك يصل العبد إلى درجة اليقين والعلم بأنه كلام الله، لأنه يراه يصدق بعضه بعضا، ويوافق بعضه بعضا. فترى الحكم والقصة والإخبارات تعاد في القرآن في عدة مواضع، كلها متوافقة متصادقة، لا ينقض بعضها بعضا، فبذلك يعلم كمال القرآن وأنه من عند من أحاط علمه بجميع الأمور، فلذلك قال تعالى: وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا أي: فلما كان من عند الله لم يكن فيه اختلاف أصلاً. |
وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ ۖ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَىٰ أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ ۗ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا(83) التفسير المختصر: وإذا جاء هؤلاء المنافقين أمر مما فيه أمن المسلمين وسرورهم، أو خوفهم وحزنهم؛ أفشوه ونشروه، ولو تأنّوا وأرجعوا الأمر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى أهل الرأي والعلم والنصح؛ لأدرك أهل الرأي والاستنباط ما ينبغي أن يُعمل بشأنه من نشر أو كتمان، ولولا فضل الله عليكم بالإسلام ورحمته بكم بالقرآن - أيها المؤمنون - فعافاكم مما ابتلى به هؤلاء المنافقين؛ لاتبعتم وساوس الشيطان إلا قليلًا منكم. تفسير الجلالين: «وإذا جاءهم أمر» عن سرايا النبي صلى الله عليه وسلم ما حصل لهم «من الأمن» بالنصر «أو الخوف» الهزيمة «أذاعوا به» أفشَوه نزل في جماعة من المنافقين أو في ضعفاء المؤمنين كانوا يفعلون ذلك فتضعف قلوب المؤمنين ويتأذى النبي «ولو ردوه» أي الخبر «إلى الرسول وإلى أُولي الأمر منهم» أي الرأي من أكابر الصحابة أي لو سكتوا عنه حتى يخبروا به «لعَلِمَه» هل هو مما ينبغي أن يذاع أو لا «الذين يستنبطونه» يتبعونه ويطلبون علمه وهم المذيعون «منهم» من الرسول وأولي الأمر «ولولا فضل الله عليكم» بالإسلام «ورحمته» لكم بالقرآن «لاتبعتم الشيطان» فيما يأمركم به من الفواحش «إلا قليلا». تفسير السعدي: هذا تأديب من الله لعباده عن فعلهم هذا غير اللائق. وأنه ينبغي لهم إذا جاءهم أمر من الأمور المهمة والمصالح العامة ما يتعلق بالأمن وسرور المؤمنين، أو بالخوف الذي فيه مصيبة عليهم أن يتثبتوا ولا يستعجلوا بإشاعة ذلك الخبر، بل يردونه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم، أهلِ الرأي: والعلم والنصح والعقل والرزانة، الذين يعرفون الأمور ويعرفون المصالح وضدها. فإن رأوا في إذاعته مصلحة ونشاطا للمؤمنين وسرورا لهم وتحرزا من أعدائهم فعلوا ذلك. وإن رأوا أنه ليس فيه مصلحة أو فيه مصلحة ولكن مضرته تزيد على مصلحته، لم يذيعوه، ولهذا قال: لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ أي: يستخرجونه بفكرهم وآرائهم السديدة وعلومهم الرشيدة. وفي هذا دليل لقاعدة أدبية وهي أنه إذا حصل بحث في أمر من الأمور ينبغي أن يولَّى مَنْ هو أهل لذلك ويجعل إلى أهله، ولا يتقدم بين أيديهم، فإنه أقرب إلى الصواب وأحرى للسلامة من الخطأ. وفيه النهي عن العجلة والتسرع لنشر الأمور من حين سماعها، والأمر بالتأمل قبل الكلام والنظر فيه، هل هو مصلحة، فيُقْدِم عليه الإنسان؟ أم لا،فيحجم عنه؟ ثم قال تعالى: وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ أي: في توفيقكم وتأديبكم، وتعليمكم ما لم تكونوا تعلمون، لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا لأن الإنسان بطبعه ظالم جاهل، فلا تأمره نفسه إلا بالشر. فإذا لجأ إلى ربه واعتصم به واجتهد في ذلك، لطف به ربه ووفقه لكل خير، وعصمه من الشيطان الرجيم. |
فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ ۚ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ ۖ عَسَى اللَّهُ أَن يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا ۚ وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنكِيلًا(84) التفسير المختصر: فقاتل - أيها الرسول - في سبيل الله لإعلاء كلمته، ولا تُسأل عن غيرك ولا تُلزم به؛ لأنك لا تكلف إلا حمل نفسك على القتال، ورغِّب المؤمنين في القتال وحثهم عليه، عسى الله أن يدفع بقتالكم قوة الكافرين، والله أشد قوة، وأشد عقوبة. تفسير الجلالين: (فقاتل) يا محمد (في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك) فلا تهتم بتخلفهم عنك المعنى قاتل ولو وحدك فإنك موعود بالنصر (وحرض المؤمنين) حثهم على القتال ورغبهم فيه (عسى الله أن يكف بأس) حرب (الذين كفروا والله أشد بأسا) منهم (وأشد تنكيلا) تعذبيا منهم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "" والذي نفسي بيده لأخرجن ولو وحدي "" فخرج بسبعين راكبا إلى بدر الصغرى فكف الله بأس الكفار بإلقاء الرعب في قلوبهم ومنع أبي سفيان عن الخروج كما تقدم في آل عمران. تفسير السعدي: هذه الحالة أفضل أحوال العبد، أن يجتهد في نفسه على امتثال أمر الله من الجهاد وغيره، ويحرض غيره عليه، وقد يعدم في العبد الأمران أو أحدهما فلهذا قال لرسوله: فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ أي: ليس لك قدرة على غير نفسك، فلن تكلف بفعل غيرك. وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ على القتال، وهذا يشمل كل أمر يحصل به نشاط المؤمنين وقوة قلوبهم، من تقويتهم والإخبار بضعف الأعداء وفشلهم، وبما أُعد للمقاتلين من الثواب، وما على المتخلفين من العقاب، فهذا وأمثاله كله يدخل في التحريض على القتال. عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا أي: بقتالكم في سبيل الله، وتحريض بعضكم بعضًا. وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا أي: قوة وعزة وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا بالمذنب في نفسه، وتنكيلا لغيره، فلو شاء تعالى لانتصر من الكفار بقوته ولم يجعل لهم باقية. ولكن من حكمته يبلو بعض عباده ببعض ليقوم سوق الجهاد، ويحصل الإيمان النافع، إيمان الاختيار، لا إيمان الاضطرار والقهر الذي لا يفيد شيئا. |
مَّن يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُن لَّهُ نَصِيبٌ مِّنْهَا ۖ وَمَن يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُن لَّهُ كِفْلٌ مِّنْهَا ۗ وَكَانَ اللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ مُّقِيتًا(85) التفسير المختصر: من يسعى لجلب الخير للغير؛ يكن له حظ من الثواب، ومن يسعى لجلب الشر للغير؛ يكن له حظ من الإثم، وكان الله على كل ما يعمله الإنسان شهيدًا وسيجازيه عليه. فمن كان منكم سببًا في حصول خير فله منه حظ ونصيب، ومن كان سببًا في حصول شر فإنه يناله منه شيء. تفسير الجلالين: «من يشفع» بين الناس «شفاعة حسنة» موافقة للشرع «يكن له نصيب» من الأجر «منها» بسببها «ومن يشفع شفاعة سيئة» مخالفة له «يكن له كفل» نصيب من الوزر «منها» بسببها «وكان الله على كل شيء مقيتا» مقتدرا فيجازي كلَّ أحد بما عمل. تفسير السعدي: المراد بالشفاعة هنا: المعاونة على أمر من الأمور، فمن شفع غيره وقام معه على أمر من أمور الخير -ومنه الشفاعة للمظلومين لمن ظلمهم- كان له نصيب من شفاعته بحسب سعيه وعمله ونفعه، ولا ينقص من أجر الأصيل والمباشر شيء، ومَنْ عاون غيره على أمر من الشر كان عليه كفل من الإثم بحسب ما قام به وعاون عليه. ففي هذا الحث العظيم على التعاون على البر والتقوى، والزجر العظيم عن التعاون على الإثم والعدوان، وقرر ذلك بقوله: وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا أي: شاهدًا حفيظًا حسيبًا على هذه الأعمال، فيجازي كُلًّا ما يستحقه. |
وَإِذَا حُيِّيتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا(86) التفسير المختصر: وإذا سلَّم عليكم أحد فردوا السلام عليه بأفضل مما سلَّم عليكم، أو ردوا عليه بمثل ما قال، والرد بالأحسن أفضل، إن الله كان على ما تعملون حفيظًا، وسيجازي كلًّا بعمله. تفسير الجلالين: «وإذا حُيِّيتم بتحية» كأن قيل لكم سلام عليكم «فحيُّوا» المحيِّي «بأحسن منها» بأن تقولوا له عليك السلام ورحمة الله وبركاته «أوردُّوها» بأن تقولوا له كما قال أي الواجب أحدهما والأول أفضل «إن الله كان على كل شيء حسيبا» محاسبا فيجازي عليه ومنه ردُّ السلام وخصّت السنة الكافر والمبتدع والفاسق والمسلِّم على قاضي الحاجة ومن في الحمام والآكل فلا يجب الرد عليهم بل يكره في غير الأخير ويقال للكافر وعليك. تفسير السعدي: التحية هي: اللفظ الصادر من أحد المتلاقيين على وجه الإكرام والدعاء، وما يقترن بذلك اللفظ من البشاشة ونحوها. وأعلى أنواع التحية ما ورد به الشرع، من السلام ابتداء وردًّا. فأمر تعالى المؤمنين أنهم إذا حُيّوا بأي تحية كانت، أن يردوها بأحسن منها لفظا وبشاشة، أو مثلها في ذلك. ومفهوم ذلك النهي عن عدم الرد بالكلية أو ردها بدونها. ويؤخذ من الآية الكريمة الحث على ابتداء السلام والتحية من وجهين أحدهما: أن الله أمر بردها بأحسن منها أو مثلها، وذلك يستلزم أن التحية مطلوبة شرعًا. الثاني: ما يستفاد من أفعل التفضيل وهو "أحسن" الدال على مشاركة التحية وردها بالحسن، كما هو الأصل في ذلك. ويستثنى من عموم الآية الكريمة من حيَّا بحال غير مأمور بها، ك "على مشتغل بقراءة، أو استماع خطبة، أو مصلٍ ونحو ذلك" فإنه لا يطلب إجابة تحيته، وكذلك يستثنى من ذلك من أمر الشارع بهجره وعدم تحيته، وهو العاصي غير التائب الذي يرتدع بالهجر، فإنه يهجر ولا يُحيّا، ولا تُرد تحيته، وذلك لمعارضة المصلحة الكبرى. ويدخل في رد التحية كل تحية اعتادها الناس وهي غير محظورة شرعًا، فإنه مأمور بردّها وبأحسن منها، ثم أوعد تعالى وتوعد على فعل الحسنات والسيئات بقوله: إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا فيحفظ على العباد أعمالهم، حسنها وسيئها، صغيرها وكبيرها، ثم يجازيهم بما اقتضاه فضله وعدله وحكمه المحمود. |
اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ۚ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ ۗ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا(87) التفسير المختصر: الله لا معبود بحق غيره، ليجمعنّ أولكم وآخركم يوم القيامة الذي لا شك فيه؛ لمجازاتكم على أعمالكم، ولا أحد أصدق حديثًا من الله. تفسير الجلالين: «الله لا إله إلا هو» والله «ليجمعنكم» من قبوركم «إلى» في «يوم القيامة لا ريب» لا شك «فيه ومن» أي لا أحد «أصدق من الله حديثا» قولا. تفسير السعدي: يخبر تعالى عن انفراده بالوحدانية وأنه لا معبود ولا مألوه إلا هو، لكماله في ذاته وأوصافه ولكونه المنفرد بالخلق والتدبير، والنعم الظاهرة والباطنة. وذلك يستلزم الأمر بعبادته والتقرب إليه بجميع أنواع العبودية. لكونه المستحق لذلك وحده والمجازي للعباد بما قاموا به من عبوديته أو تركوه منها، ولذلك أقسم على وقوع محل الجزاء وهو يوم القيامة، فقال: لَيَجْمَعَنَّكُمْ أي: أولكم وآخِركم في مقام واحد. في يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ أي: لا شك ولا شبهة بوجه من الوجوه، بالدليل العقلي والدليل السمعي، فالدليل العقلي ما نشاهده من إحياء الأرض بعد موتها، ومن وجود النشأة الأولى التي وقوع الثانية أَوْلى منها بالإمكان، ومن الحكمة التي تجزم بأن الله لم يخلق خلقه عبثًا، يحيون ثم يموتون. وأما الدليل السمعي فهو إخبار أصدق الصادقين بذلك، بل إقسامه عليه ولهذا قال: وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا كذلك أمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقسم عليه في غير موضع من القرآن، كقوله تعالى: زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ وفي قوله: وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا إخبار بأن حديثه وأخباره وأقواله في أعلى مراتب الصدق، بل أعلاها. فكل ما قيل في العقائد [والعلوم] والأعمال مما يناقض ما أخبر الله به، فهو باطل لمناقضته للخبر الصادق اليقين، فلا يمكن أن يكون حقًّا. |
۞ فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُم بِمَا كَسَبُوا ۚ أَتُرِيدُونَ أَن تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ ۖ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا(88) التفسير المختصر: ما شأنكم - أيها المؤمنون - صرتم فريقيْن مختلفيْن في شأن التعامل مع المنافقين: فريق يقول بقتالهم لكفرهم، وفريق يقول بترك قتالهم لإيمانهم؟! فما كان لكم أن تختلفوا بشأنهم، والله ردهم إلى الكفر والضلال بسبب أعمالهم، أتريدون أن تهدوا من لم يوفقه الله إلى الحق؟! ومن يضلل الله فلن تجد له طريقًا إلى الهداية. تفسير الجلالين: ولما رجع ناس من أُحد اختلف الناس فيهم، فقال فريق اقتلهم، وقال فريق: لا، فنزل: «فما لكم» ما شأنكم صرتم «في المنافقين فئتين» «والله أركسهم» ردهم «بما كسبوا» من الكفر والمعاصي «أتريدون أن تهدوا من أضلًـ» ـه «الله» أي تعدوهم من جملة المهتدين، والاستفهام في الموضعين للإنكار «ومن يضللـ» ـه «اللهُ فلن تجد له سبيلا» طريقا إلى الهدى. تفسير السعدي: المراد بالمنافقين المذكورين في هذه الآيات: المنافقون المظهرون إسلامهم، ولم يهاجروا مع كفرهم، وكان قد وقع بين الصحابة رضوان الله عليهم فيهم اشتباه، فبعضهم تحرج عن قتالهم، وقطع موالاتهم بسبب ما أظهروه من الإيمان، وبعضهم علم أحوالهم بقرائن أفعالهم فحكم بكفرهم. |
وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً ۖ فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّىٰ يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ۚ فَإِن تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ ۖ وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا(89) التفسير المختصر: تمنَّى المنافقون لو تكفرون بما أُنزل عليكم كما كفروا فتكونون مستوين معهم في الكفر، فلا تتخذوا منهم أولياء لعداوتهم حتى يهاجروا في سبيل الله من دار الشرك إلى بلاد الإسلام دلالة على إيمانهم، فإن أعرضوا واستمروا على حالهم فخذوهم واقتلوهم أينما وجدتموهم، ولا تتخذوا منهم وليًّا يواليكم على أموركم، ولا نصيرًا يعينكم على أعدائكم. تفسير الجلالين: «ودُّوا» تمنوا «لو تكفرون كما كفروا فتكونون» أنتم وهم «سواء» في الكفر «فلا تتخذوا منهم أولياء» توالونهم وإن أظهروا الإيمان «حتى يهاجروا في سبيل الله» هجرة صحيحة تحقق إيمانهم «فإن تَوَلَّوْا» وأقاموا على ما هم عليه «فخذوهم» بالأسر «واقتلوهم حيث وجدتموهم ولا تتخذوا منهم وليا» توالونه «ولا نصيرا» تنتصرون به على عدوكم. تفسير السعدي: فأخبرهم الله تعالى أنه لا ينبغي لكم أن تشتبهوا فيهم ولا تشكوا، بل أمرهم واضح غير مشكل، إنهم منافقون قد تكرر كفرهم، وودوا مع ذلك كفركم وأن تكونوا مثلهم. فإذا تحققتم ذلك منهم فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ وهذا يستلزم عدم محبتهم لأن الولاية فرع المحبة. ويستلزم أيضا بغضهم وعداوتهم لأن النهي عن الشيء أمر بضده، وهذا الأمر موقت بهجرتهم فإذا هاجروا جرى عليهم ما جرى على المسلمين، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يجري أحكام الإسلام لكل مَنْ كان معه وهاجر إليه، وسواء كان مؤمنا حقيقة أو ظاهر الإيمان. وأنهم إن لم يهاجروا وتولوا عنها فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ أي: في أي وقت وأي محل كان، وهذا من جملة الأدلة الدالة على نسخ القتال في الأشهر الحرم، كما هو قول جمهور العلماء، والمنازعون يقولون: هذه نصوص مطلقة، محمولة على تقييد التحريم في الأشهر الحرم. |
إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَىٰ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَن يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ ۚ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ ۚ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا(90) التفسير المختصر: إلا من وصل منهم إلى قوم بينكم وبينهم عقد مؤكد على ترك القتال، أو من جاؤوكم وقد ضاقت صدورهم فلا يريدون قتالكم ولا قتال قومهم، ولو شاء الله لمكنهم منكم فقاتلوكم، فاقبلوا من الله عافيته، ولا تتعرضوا لهم بقتل ولا أسر، فإن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم، وانقادوا إليكم مصالحين تاركين قتالكم، فما جعل الله لكم عليهم طريقًا بقتلهم أو أسرهم. تفسير الجلالين: «إلا الذين يصلون» يلجئون «إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق» عهد بالأمان لهم ولمن وصل إليهم كما عاهد النبي صلى الله عليه وسلم هلال بن عويمر الأسلمي «أو» الذين «جاَءُوكم» وقد «حَصِرَتْ» ضاقت «صدورهم» عن «أن يقاتلوكم» مع قومهم «أو يقاتلوا قومهم» معكم أي ممسكين عن قتالكم وقتالهم فلا تتعرضوا إليهم بأخذ ولا قتل وهذا ما بعده منسوخ بآية السيف «ولو شاء الله» تسليطهم عليكم «لسلطهم عليكم» بأن يقّوي قلوبهم «فلقاتلوكم» ولكنه لم يشأه فألقى في قلوبهم الرعب «فإن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم وألقوا إليكم السَّلَمَ» الصلح أي انقادوا «فما جعل الله لكم عليهم سبيلا» طريقا بالأخذ والقتال. تفسير السعدي: ثم إن الله استثنى من قتال هؤلاء المنافقين ثلاث فِرَق: فرقتين أمر بتركهم وحتَّم [على] ذلك، إحداهما من يصل إلى قوم بينهم وبين المسلمين عهد وميثاق بترك القتال فينضم إليهم، فيكون له حكمهم في حقن الدم والمال. والفرقة الثانية قوم حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ أي: بقوا، لا تسمح أنفسهم بقتالكم، ولا بقتال قومهم، وأحبوا ترك قتال الفريقين، فهؤلاء أيضا أمر بتركهم، وذكر الحكمة في ذلك في قوله: وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فإن الأمور الممكنة ثلاثة أقسام: إما أن يكونوا معكم ويقاتلوا أعداءكم، وهذا متعذر من هؤلاء، فدار الأمر بين قتالكم مع قومهم وبين ترك قتال الفريقين، وهو أهون الأمرين عليكم، والله قادر على تسليطهم عليكم، فاقبلوا العافية، واحمدوا ربكم الذي كف أيديهم عنكم مع التمكن من ذلك. فهؤلاء إن اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا الفرقة الثالثة: قوم يريدون مصلحة أنفسهم بقطع النظر عن احترامكم، وهم الذين قال الله فيهم: |